فنقول: قال في الأساس وشرحه: قال جمهور أئمتنا عليهم السلام والملاحمية أصحاب الشيخ محمود الملاحمي من المعتزلة: وصفات الله تعالى ذاته وفاقاً لأبي الحسين البصري والرازي وغيرهما قال في الشرح: كأبي القاسم البلخي وابن الإخشيد وسائر شيوخ البغداديين، فإن هؤلاء جميعاً يوافقون في صفته تعالى الوجودية: أنها ذاته تعالى، قال عليه السلام : ومعناه أي معنى أن صفات الله هي ذاته: أنه تعالى قادر بذاته لا بأمر غيره زائد على ذاته ونحو ذلك أي عالم بذاته، وحي بذاته، وسميع بصير بذاته، والمعنى ليس إلا ذاته كما ذكرناه من قبل الخ، وقوله عليه السلام : وفاقاً لأبي الحسين ومن ذكر، من صفته الوجودية يعنى أنهم يوافقونا في صفة موجود أنها ذاته تعالى وليست أمراً زائداً على ذاته كما تقوله البهاشمة وسائر من أثبت الذوات في العدم، وأما ما عداها من كونه تعالى قادراً وعالماً وحياً وسميعاً وبصيراً فإنهم يخالفونا فيها، فأبو الحسين يقول هي مزايا. والرازي يقول: هي معان. كما نص عليه في تفسيره مفاتيح الغيب في سورة البقرة فقال: إن العلم معنى قائم بذات الله تعالى. واستشكله بأنه يلزم التركيب في ذات الله تعالى، وقال: لا نعلم كيف هذا العلم هذا معنى كلامه، ولعل مراده بقوله: لا نعلم كيف هذا العلم. هل هو من قبيل الاعتقاد الجازم أو مجرد التجلي والوضوح أم لا بل هو أمرٌ زائد صفة لله تعالى كما تقوله الأمورية ؟ وأما أبو هاشم وابن الإخشيد وسائر شيوخ البغداديين فلعلهم موافقون للبهاشمة فيها وسيأتي حكاية مذهبهم، قال عليه السلام : قال بعض أئمتنا عليهم السلام وهو الإمام المهدي أحمد بن يحيى عليهما السلام ومن تبعه على ذلك وبعض شيعتهم كالشيخ الحسن الرصاص والفقيه يحيى بن حسن القرشي وأبو علي في بعض الروايات والبهشمية وهم أبو هاشم وأتباعه: بل هي أي صفاته تعالى أمور زائدة على ذاته تعالى، قال الشارح حكاية عنهم:لا هي الموصوف ولا غيره، ولا شيء ولا لا(1/186)


شيء، ووافقهم أبو الحسين على رواية المتن في المزايا في قولهم: لا هي الله ولا غيره ولعله يوافقهم في قولهم: لا شيء ولا لا شيء.
وقال القرشي في المنهاج: اتفق أهل العدل على: أن الله تعالى يستحقها لذاته أو لما هو عليه من ذاته ولا يحتاج في ثبوتها إلى مؤثر.
واتفق أهل الجبر على: أنه يستحقها لمعان. ثم اختلفوا، فقالت الصفاتية: لا توصف بقدم ولا غيره لأنها صفات، وقال ابن كَلاَّب: أزلية. وقال الأشعري: قديمة. واتفقا على: أنها لا هي الله ولا غيره ولا بعضها هو البعض الآخر ولا غيره، وقالت الكرامية: أغيار لله تعالى قديمة، أعراض له في ذاته انتهى.
قوله: اتفق أهل العدل أنه يستحقها لذاته، يعني بذلك قول أبي هاشم ومن وافقه في إثبات الصفة الأخص، وقول أبي علي ومن وافقه في نفي الصفة الأخص، ولعله أراد إدخال قول الملاحمية وأبي الحسين معهم ليصح له قوله: اتفق أهل العدل، وقد رأيت على رواية الأساس أن الملاحمية وجمهور أئمتنا عليهم السلام يقولون: إنها هي الذات. ولم يتعرض لذكر هذا القول مع أنه هو الصحيح. ولعله لما كان يشترك هو وقول سائر أهل العدل في نفي المعاني جعلهما قولاً واحداً بالنظر إلى ذلك وإلا فهما قولان، لأن البهشمية والبعلوية يجعلونها أموراً زائدة على الذات مقتضاة عنها بواسطة الصفة الأخص أولاً حسبما مر تحقيق الخلاف بينهم.
قلت: فهذه حكايات المذاهب المشهورة في هذه المسألة، وقد حكى الجلال رحمه الله تعالى في حاشيته على القلائد أقوالاً غيرها حتى أنهاها إلى تسعة أقوال، وانتصر للقول الأول الذي هو قول جمهور أئمتنا عليهم السلام، ولا حاجة بنا إلى ذكر سائر الأقوال التي حكاها لأنها إما راجع إلى ما ذكر أو غير مشهور عن من نسب إليه، فترك حكاية ذلك عنه أسلم.(1/187)


وحينئذ فنقول: إذا عرفت أيها الطالب هذه المذاهب جميعها وأمعنت النظر فيها وجدت القول الأول ليس فيه ما يقدح في شيء من أصول التوحيد ومسائله المتقررة المجمع عليها بين أهل الإسلام، ولا مناقضة للقضايا العقلية كقول بعضهم: لا هي لله ولا غيره، ولا شيء ولا لا شيء ونحو ذلك من الأقوال المتناقضة المتنافية.
ولنقرره بمثال في الشاهد يعلم به أنه هو الحق بلا مرية، وهو: أنا إذا رأينا بناءً أو نجارة أو غير ذلك من الأفعال المشاهدة، فإنا نعلم أنه لا يصح وجودها وإحكامها إلا من ذات متصفة بثلاث صفات، فالذات ذات زيد الفاعل وهي الجسم المشاهد، والصفات الحياة والعلم والقدرة، لكن لما علمنا بالأدلة القاطعة أن هذه الحياة والقدرة والعلم هي من جملة الأعراض والمعاني الداخلة في جملة مخلوقات الله عز وجل كما مر في مسألة إثبات الصانع وأكد ذلك السمع القطعي في قوله تعالى: ?خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ?{الملك:2}، ?خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً? {الروم:54}، ?وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ? {النحل:78}، ?وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ ?{البقرة:282}، ?لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا? {الحج:5}، علمنا أنها مستحيلة على الله تعالى. وقد تقرر أن الله تعالى قادر عالم حي، فلم يبق إلا القول بأن ذاته تعالى سادة مسد الجميع، وأنه يصح منه الفعل لمجرد ذاته تعالى من دون احتياج إلى تلك المعاني التي هي القدرة والعلم والحياة لاستلزام الحاجة إليها والله الغني إجماعاً كما سيأتي أيضاً، وهو قديم إجماعاً كما سبق واستلزام التعدد وهو تعالى واحد في ذاته فلا يجوز على ذاته تعالى التعدد والتركيب من الماهيات المختلفات إجماعاً لاستلزام الحدوث وهو تعالى قديم، فلم يبق إلا القول بنفي تلك المذكورة سواء سميناها مزايا أو صفاتاً أو أموراً أو أحوالاً أو معانٍ فالكل اختلاف في(1/188)


اللفظ واتفاق على ما قضى العقل بنفيه وتنزيه الله تعالى عنه والحكم بأن القدرة والعلم والحياة في حقه تعالى لا وجود لها البتة، وذاته تعالى في صحة الفعل وتدبيره وإحكامه مستغنية عنها.
لا يقال: فيلزمكم إذ قد نفيتموها أن تنفوا ما اشتق منها فلا يقال له: قادر عالم حي.
لأنا نقول: قد تقدم أن القادر هو من صح منه الفعل أعم من أن يكون لأجل قدرة فيه كالشاهد ولأجل ذاته كالباري تعالى، والعالم: من يصح منه الفعل المحكم أعم من أن يكون لأجل علم فيه كالشاهد أو لأجل ذاته تعالى، والحي: من يصح منه الفعل والتدبير أعم لا كل من أن يكون لأجل حياة فيه كالشاهد أو لأجل ذاته كالباري تعالى.
لا يقال: إذا جعلتم الصفات هي الذات لزم اختلاف الذات لاختلاف تلك الصفات.
لأنا نقول: لا نسلم لزوم الاختلاف بعد نفي حقائق تلك الصفات وإثبات السَّادَّةِ سَادَّةٌ مَسَّدَ الجميع.
دليله أنها صارت كلها عبارة عن كونه تعالى يصح منه الفعل، وليس في زيادة الإحكام نفي الاقتدار على غير الحكم.
وبعد فهذا لازم للجميع لأن من جعلها صفاتاً أو معانياً قائمة بذاته أو أموراً مقتضاة عن ذاته، لزمه اختلاف الذات باختلاف ما قام بها أو بحسب اختلاف ما اقتضته، بل الإلزام مع إثبات الأمور والمعاني والصفات المتعددات أدخل وأظهر في لزوم اختلاف الذات، بل لا يسلم لزومه إلا في هذه الأقوال دون الأَول.
لا يقال: اختلاف المفاهيم في قادر وعالم وحي يدل على اختلاف الذات باختلاف مفاهيم هذه الصفات، فمفهوم قادر ليس بعاجز، ومفهوم عالم ليس بجاهل، ومفهوم حي ليس بميت ولا جماد، فاختلفت هذه المفاهيم فيلزم اختلاف الذات باختلافها.(1/189)


لأنا نقول: ما ثبت اختلاف الذات باعتبار المنطوقات، فكيف يثبت باعتبار المفهومات على أن جميع هذه المفاهيم راجعة إلى السلب، والسلب لا يقع به تماثل ولا اختلاف لأن التماثل والاختلاف لا يكونان إلا بعد وجود المختلفين أو المتماثلين ثم يختلفان أو يتماثلان في صفة تخص أحدهما أو تعمهما مهما لم يكن الاختلاف بنفس الذات وأنتم لا تسلمونه، وبعد فالإلزام لازم للجميع بل هو ألزم لقولهم، فما أجابوا به فهو جوابنا.
يزيده وضوحاً أنها قد تختلف المفاهيم ولا يختلف الشيء باختلافها كما نقول هذا الشيء مشيراً إلى جسم معين هو يمنة المسجد، ويسرة الحانوت، وأمام البيت، وخلف الاصطبل، ولا تختلف ذات ذلك باختلاف هذه الألفاظ المذكورة لا بمنطوقها ولا بمفهومها، ويؤكد ذلك كون السلب لا يقع به تماثل ولا اختلاف أن المعدومات لا يقع فيها تماثل ولا اختلاف إلا بعد وجودها ووجود صفة قامت بأحدهما دون الآخر في الاختلاف أو قامت بهما معاً في التماثل، فأما والذات واحدة قد نفي عنها كل أمر زائد عليها فبينها وبين الاختلاف بون بعيد، ومقارنة الأمور الزائدة عليها أو قيام المعاني المتعددة بها يستلزم الاختلاف الذي ليس عليه من مزيد، فثبت بما ذكرناه أن الصفات هي الذات في حقه تعالى، وأن هذا القول لا ينافي شيئاً من الأصول والمسائل المجمع عليها في التوحيد ولا مناقضة فيه لشيء من القضايا العقلية، وأن ما عداه سيما القول بالمعاني قول يعود على الأصول والمسائل المجمع عليها بالمناقضة والإبطال، وما عاد على الغرض المقصود وهو التوحيد بالمناقضة والإبطال فهو بالإبطال أولى، فلم يبق إلا القول بأنه تعالى قادر، وعالم، وحي، وعالم، وموجود بذاته فيما لم يزل وفيما لا يزال، ولا يخرج عن ذلك بحال من الأحوال من دون أمر أو صفة أو حال أو معنى يوجب له لذلك أو يصححه له، [ لأنه ] تعالى [ لو لم يكن كذلك ]، أي قادر وعالم وحي وقديم بذاته، بل كان لأمر غير ذاته أو كان يجوز(1/190)

38 / 311
ع
En
A+
A-