فصفات الذات: ما قد عرفت بما حكيناه عنهم أنها شاهداً عبارة عن المعنى الذي أفاده قول الواصف،وغائباً لا تحد بالماهية أو بالرسم بل بالشرح لمعنى اللفظ فقط.
وصفات الفعل: ما نثبت للمتصف بها باعتبار أنه فعل الحدث المشتق منه ذلك الوصف كخالق لفعله الخلق، ورازق لفعله الرزق، وقابض، وباسط، ومحيي، ومميت ونحو ذلك، ولا يثبتون صفة ذاتية في حقه تعالى ولا مقتضاة بل يقال: لها صفات ذات. ويجعلون المعنوية والتي بالفاعل وصفة الفعل داخلة في صفات الفعل، وكذلك الذاتية والمقتضاة في الشاهد جعلوها كلها من قسم الصفات التي لا تكون إلا بالفاعل كالجسم مثلاً فإن فيه صفة ذاتية، وهي ما يألف الجسم وحصل منها وهو الطول والعرض والعمق، ومقتضاة وهو التحيز وجواز التجزي والانقسام، ومعنوية وهو اللون والطعم ونحوهما، فعند جمهور أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم: أن جميع ذلك بفعل فاعل الجسم، وعند البهاشمة ومن وافقهم: أن ليس بفعل فاعل الجسم إلا صفته الوجودية أي إيجاد الجسم دون ذاته فهي ثابتة في الأزل ودون المقتضاة فهي مقتضاة عن ذاته متى وجدت، وقالوا في العَرَض: إنما هو تعالى فاعل صفة العرض الوجودية وهي إيجاد اللون ونحوه دون ذاته، فهي ثابتة في الأزل ودون كونه هيئة للمحل فهي مقتضاة عن ذاته متى وجدت، فالصفة المقتضاة عندهم وكون الذات ذاتاً ليست بفعل فاعل الجسم والعرض بل كونهما ذواتاً ثابتة في الأزل، والمقتضاة هي حاصلة على سبيل الإيجاب بالاقتضاء عند وجودهما.(1/181)
وإنما قسم جمهور أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم الصفات إلى قسمين فقط، صفات ذات وصفات فعل، اعتماداً على القسمة الدائرة بين النفي والإثبات وهي أن يقال: الصفة المنسوبة إلى المتصف بها لا تخلو إما أن تكون باعتبار نسبة شيء يرجع إلى ذاته ويقوم بها أو لا، الأول صفات الذات، والثاني الذات، فعلت الحدث المشتق صيغة الوصف من مصدره أو لا، الأول صفات الفعل، والثاني ليس بصفة اصطلاحية بل هو قول كاذب يسمى وصفا لغة كوصف المثلثة الله تعالى بالتثليث، والمجسمة بالتجسيم، والمجبرة بأنه خلق أفعال العباد، وهذا واضح.
والبهاشمة ومن وافقهم يقال في تقسيمها إلى خمس، الصفة إما أن تثبت للمتصف بها باعتبار أنه فعل ما اشتقت منه أو لا، الأول صفات الأفعال، والثاني إما أن يكون لذات الموصوف بها أو لا، الأول الذاتية، والثاني إما أن تثبت للمتصف بها لأجل صفته الذاتية أو لا، الأول المقتضاة، والثاني إما أن تثبت للمتصف بها الوجود معنىً فيه أو لحدوث ذاته أو لا، الأول المعنوية، والثاني التي بالفاعل، وقد عرف ذلك التقسيم حدودها قالوا: والذوات المتصفة بها تكون هذه الصفات الخمس صفات لها ثلاث لا رابع لها: ذات جسم، وذات عرض، وذات الباري تعالى.
فالجسم يستحق من جهة الذات الذاتية كالطول والعرض ونحوهما، ومن الاقتضاء المقتضاة كالتحيز وجواز التجزي والانقسام ونحوهما، ومن جهة المعنى المعنوية كحالي وحامض وأسود وأبيض ونحوهما، ومن جهة التي بالفاعل والأربع الأُول فقط إن لم يفعل شيئاً.
والعرض يستحق من جهة الذات الذاتية وهي كونه يقوم بالجسم ولا يشغل الحيز عند حدوثه، ومن جهة الاقتضاء المقتضاة وهي كونه هيئة للمحل ولا يقوم بنفسه،ومن جهة التي بالفاعل كونه موجوداً فاستحق منها ثلاثاً ولا يستحق المعنوية، لأن المعنى لا يقوم بالمعنى ولا صفة الفعل لأنه لا يصح من العرض أن يفعل فعلاً.(1/182)
والباري تعالى يستحق من جهة الذات الذاتية وهي الصفة الأخص عند أبي هاشم وموافقيه أو نفس الذات المقدسة عند أبي علي ومن وافقه في نفي الصفة الأخص، ثم اتفقا في وصفه تعالى بقادر وعالم وحي وموجود أنها مقتضاة عن نفس الذات عن أبي علي أو عند الصفة الأخص عن أبي هاشم، فاستحق سبحانه وتعالى من جهة الذات الذاتية، ومن جهة الاقتضاء المقتضاة، ويستحق من جهة المعنى المعنوية كمريد وكاره، ومن جهة أنه فعل الخلق صفة الفعل فاستحق أربعاً من الصفات الخمس، ولا يستحق الخامسة وهي التي بالفاعل لأنه لا فاعل له تعالى لأنه قديم، وجعلوا الذوات الثلاث ثابتة كلها في الأزل، وليست كلها موجودة في الأزل إنما الموجود منها في الأزل ذات واحدة وهي ذات الباري تعالى، وجعلوا الصفات كلها أموراً زائدة على الذوات لا توصف بوجود ولا عدم، وليست بأشياء مستقلة يصح تعلق العلم بها على انفرادها بل تعلم تبعاً للذات، وليست لا شيئاً أصلاً لأنها معلومة بالتبعية للعلم بالذوات القائمة بها، وفرعوا من ذلك من قولهم: الصفات لا توصف. وجعلوا صفة مدرك مقتضاة عن صفة حي بشرط وجود المدرَك ولا يوصف بها في الأزل بل عند وجود المدرَك بخلاف الأربع الأول فيوصف بها في الأزل لأنها مقتضاة عن الذات أو عن الصفة الأخص، وهي مقتضاة عن الذات والذات موجودة في الأزل، ويجعلون صفة مدرِك متحددة عند وجود المدرَك وليس بحادثة عند وجود المدرَك، وصفة سميع بصير بمعنى حي لا آفة به يوصف بهما في الأزل، وسامع مبصر متجددة كمدرِك، وصفة مريد وكاره جعلوهما في حق الله تعالى لأجل معنيين هما: نفس الإرادة والكراهة حادثين عند وجود المراد، والمكروه يحدثهما الله تعالى في غير محل لكن يختصا به على أبلغ الوجوه بمعنى لو كان تعالى كُلاًّ للمعاني لخلافيه كالشاهد، ويخلقهما الله تعالى وهو غير مريد لهما إذ لو أرادهما لاحتاجا إلى الإرادة وتسلسل، وهذا مع كونه مبنياً على القول بثبوت الذوات في العدم،(1/183)
وقد مر إبطاله بما لا مزيد عليه فهو باطل من وجوه:
منها: أنهم جعلوا صفات الذات في الباري تعالى ما بين مقتضي ومقتضى، وهما كالعلة والمعلول لا فرق بينهما إلا أنهم فروا عن العلة والمعلول لشناعتهما، وأتوا بما في معناهما لأن العلة هي ما يؤثر على سبيل الإيجاب ويستحيل تخلف المعلول عنها، والمقتضي: هو يؤثر على سبيل الإيجاب ويستحيل تخلف المقتضى عنه.
فإن قالوا: الفرق أن العلة مؤثرة في المعلول وليس المقتضي مؤثراً في المقتضى.
قلنا: ففسروا لنا ما معنى يقتضي ؟
فإن كان بمعنى يُوجد مقتضاة عند وجوده. قلنا لهم: فهل كان ذلك على سبيل الإيجاب فهو العلة فلا فرق حينئذ بين أن يقال يؤثر أو يقتضي، أم كان لا على سبيل الإيجاب بل على سبيل الاختيار فهو باطل بلا تناكر لخروجه إلى الفاعل والمفعول، فيلزم حدوث الصفات المقتضاة وكون المقتضية قادرة عالمة حية موجودة، فإما لذاتها فكان يجب ذلك لذات الباري تعالى من أول وهلة واسترحتم عن هذه المحالات بأصلها، وإما لأجل صفات أُخر أخص مقتضيات لها قيل فيها ما قيل فيما قبلها وتَسَلْسَل.
ومنها: تقسيماتهم صفات الباري تعالى إلى تقسيمات ما أنزل الله بها من سلطان، فجعلوا بعضها مقتضىً عن الذات المقدسة عن أن تنالها الأوهام أو يتطرق إليها الانقسام كالصفة الأخص،وبعضها مقتضىً عن المقتضى كالصفات الأربع قادر وعالم وحي وموجود، وبعضها مقتضي عن المقتضى عن المقتضى كصفة مدرِك وسامع مبصرة، مقتضاة عن حي، وبعضها مقتضي بشرط غير مشروط في سائرها كالثلاثة الأخيرة مقتضاة عن حي بشرط وجود المسموع والمبصَر وسائر المدرَكات، وبعضها بشرط خلاف الشرط المذكور كقادر وعالم وحي وموجود مقتضاة عن الصفة الأخص بشرط وجود الذات عند أبي هاشم، وبعضها عن نفس الذات بشرط وجود الذات كالصفات الأربع عند أبي علي، والصفة الأخص عند أبي هاشم.(1/184)
ومن المعلوم ضرورة أو استدلالاً أن هذا التقسيم المختلف الأطراف والمتعدد الأوصاف إن كان مطابقاً لما في الخارج لزم التعدد في الأزل، فما اعترضوا به على الأشاعرة في إثبات المعاني القديمة من أنه يلزم أنها آلهة فهو وارد عليهم،وإن لم يكن مطابقاً لما في الخارج فهو حقيقة الكذب.
ومنها: ما قالوه في غير صفة مريد وكاره من هذه الصفات من الأقوال المعلومة التناقض نحو قولهم لا هي الله ولا هي غيره، ولا موجودة ولا معدومة، ولا قديمة ولا محدثة، ولا شيء ولا لا شيء مع أنهم يعيبون ذلك على الأشاعرة في قولهم في المعاني: لا هي الله ولا غيره، ولا شيء ولا لا شيء. ثم فارقوا الأشاعرة بقولهم: لا موجودة ولا معدومة، ولا قديمة ولا محدثة، والأشاعرة: فهي موجودة قديمة.
ومنها: ما قالوه في صفة مريد وكاره من المحالات الظاهرة كما سبق حكاية مذهبهم في هاتين الصفتين، وسيأتي الكلام فيهما في العدل إنشاء الله تعالى.
نعم وقد ظهر لك أيها المطلع من جميع ما مر مذاهب بعض المتكلمين في هذه المسألة إجمالاً، فلنورد الجميع تفصيلاً، ثم نردد كل قول منها إلى أصول التوحيد المجمع عليها، فما عاد عليها بالتقوية والتأييد فهو الحق الذي لا ريب فيه، وما عاد عليها بالمناقضة والتبعيد فهو الباطل الذي لا يجوز المصير إليه.(1/185)