والدائم والباقي وقد مر في مسألة حي: أنهما يفيدان كونه تعالى حياً على سبيل الدوام ولا منافاة في تعدادهما في البابين، وبعض المتكلمين يقول: باقي ولا ضد له. ولعله عنده لا يفيد المدح إلا بذلك لمشاركة أهل الآخرة في دوام البقاء ولأن ما في الدنيا ما يبقى وقتين فصاعداً أو ذات لا كالذوات، وشيء لا كالأشياء عند القاسمين وظاهر قول الهادي عليه السلام ، وقال السادة المؤيد بالله وأبو طالب والمهدي عليهم السلام والجمهور: يجوز بلا قيد لإفادة كونه معلوماً. قال في الأساس: يمتنع لأنه لا يفيد كونه معلوماً ولا يتضمن مدحاً من دون قيد، وسُبُّوحٌ قُدُّوس لأنه يفيد تنزيهه في ذاته وصفاته عما لا يليق به. قال الهادي عليه السلام : القدوس: الذي يستحق من عباده التقديس وهو التنزيه،وحق لأنه يفيد في اللغة الثبوت، والأبدي والسرمدي لأن معناهما البقاء الذي لا نهاية له.
وأما مالا يجوز على الله تعالى فقولنا: عين. لأنه يختص الجرم، ونفس لأنه كذلك، ويفيد الحيوانية ويطلق على الدم وفي الحديث: " ما ليس له نفس سائل فميته طاهرة " - أي دم ـ،وقوله تعالى: ?وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ? {آل عمران:28}، - أي عقابه - ?تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ? {المائدة:116}، أي: سري وغيبي ولا أعلم سرك وغيبك.
وأما قولنا: معنى. فلا شبهة في امتناعه لأنه من قبيل الأعراض، وأبعد من ذلك علة لأنه في الأصل لما يتغير به المحل والحيوان الصحيح، وفي الاصطلاح ما يؤثر على سبيل الإيجاب والاضطرار بمقابل الفاعل المختار والكل ممتنع عليه تعالى، وكذلك جسم وجوهر وعرض لأنها أنواع المحدث وهو تعالى قديم عزيز حكيم.(1/176)


ولما فرغ عليه السلام من الكلام فيما يجب لله تعالى من صفات الإثبات تكلم في كيفية اتصافه تعالى بها وثبوتها له، وجعل الكلام في ذلك راجعاً إلى الجميع، فذكرها كلها في هذه الجملة لما كان الواجب اعتقاد ثبوتها له واتصافه بها بكل حال من الأحوال، فذكرها على الوجه الذي يجب على المكلف، فقال: [ وهو تعالى قديم، قادر، حي، عليم، لم يزل ولا يزال، ولا يجوز خروجه عن ذلك بحال من الأحوال ]، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين، وإن خالف جهم وهشام بن الحكم وقالا:إنه لا يعلم المحدثات إلا عند حدوثها. فلم يخالفا في كونه عالماً في الأزل على الجملة كعلمه عز وجل بذاته وصفاته وعدم المعدومات ونحو ذلك، وإنما الخلاف بينهم في كيفية اتصافه تعالى بهذه الصفات، وهل ثمة في الوجود شيء زائد على ذاته تعالى لأجله كان قادراً عالماً حياً موجوداً من مزية أو أمر أو حال أو معنى، أم ليس في الوجود شيء من ذلك بل ليس إلا ذاته المقدسة لأجلها كان قادراً عالماً حياً موجوداً ؟
ولا بد قبل حكاية المذاهب في ذلك وتقرير القول الحق في ذلك من تقديم تمهيد لذكر حقيقة الصفة والفرق بينها وبين الحكم، وتقسيم الصفات، وكيفية اتصاف الموصوفات بها على سبيل الاختصار، وقد أفردت لهذه المسألة مؤلفاً مستقلاً لعظم شأنها ونفعها وعظم الخطر في الخطأ فيها وسميته: بالبحث المفيد الجاري على محض التوحيد في صفات الحميد المجيد، فمن أراد الاستيفاء فعليه به أو غيره من مطولات الفن.(1/177)


اعلم أن الصفة والوصف يُستعملان في اللغة بمعنى واحد، وهما مصدران عبارة عن قول الواصف المتضمن نسبة ما أفاده اللفظ إلى الموصوف يقال: وصفهُ يصفه وصفا، وصَفَه كوَعَدَه يعده وعداً وعِدَة، وكوزنه يزنه وزناً وزِنَة، وسواء كان ذلك القول صادقاً في الموصوف بأن كان ذلك المعنى ثابتاً له، كقولك: زيد كريم. مع حصول الكرم منه، أم كان كاذباً. كقولك: زيد كريم. مع عدم حصول الكرم منه، فإن الكل يقال له وصف في أصل اللغة، وقوله تعالى: ?مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ? {المؤمنون:91}، وفي عرف اللغة: ما أفاده قول الواصف كالكرم مثلاً الذي أفاده قولك زيد كريم، وكالشجاعة والعلم في قولك: زيد شجاع عالم، وأما في اصطلاح المتكلمين فقد اختلفوا في ذلك، فمن ذهب منهم إلى أن صفات الباري سبحانه وتعالى ذاته. فَرَّق بين الصفة شاهداً أو غائباً، ففي الشاهد هي ما أفاده قول الواصف وهو المعنى القائم بالموصوف كالكرم والشجاعة والعلم فلا فرق عندهم بين الحقيقة العرفية والاصطلاحية شاهداً، وأما غائباً فلا تحد عندهم بحد ولا تحقق بماهية إذ هي ذاته عز وجل وذاته تعالى لا تحد إذ لا تدخل تحت جنس فتفصلها عن غيرها بالنوع، ذكر معنى ذلك سيد المحققين قدس الله روحه.(1/178)


قلتُ: ومراده عليه السلام أنها لا تحد بالحد الذاتي وهو الذي يتصور به ماهية الشيء وهُوِّيتِه كما إذا قيل ما الخمر ؟ فيقال: الشراب المسكر أو الرسمي، وهو الذي يتألف من لوازم الشيء العارضة لذاته اللازمة لها، كما إذا قيل: ما الإنسان ؟ فيقال الطويل القامة الماشي على الرجلين البادي البشرة العريض الأظفار، فأما بالمعنى الثالث من معاني الحد وهو شرح الاسم بلفظ مرادف له أو أجلى منه، كما إذا قيل: ما العقار ؟ فيقال الخمر، وما الغضنفر ؟ فيقال: الأسد، وما القادر ؟ فيقال: من يصح منه الفعل، فهذا لا يمنع حد الصفة أي شرحها به سواء أردنا الصفة شاهداً أو غائباً.(1/179)


ومن ذهب منهم إلى: أن صفات الباري تعالى أموراً زائدة على ذاته. لم يفرق بين حد الصفة شاهداً وغائباً وجعلها تأتي لمعنيين أعم: وهو كل أمر يعلم للذات زائداً عليها تعلم الذات من دونه، وإنما جعلوا هذا أعم لأنه يدخل تحت صفات الإثبات كقادر وعالم وحي ونحو ذلك، وصفات النفي كليس بضاحك وليس بجسم وليس له ثان ونحو ذلك، ويدخل تحته الحكم: وهو ما يعلم للذات باعتبار غيرها أو ما يجري مجرى غيرها كالمماثلة والمخالفة والزوجية والأبوة والبنوة، فلا يعلم هذا الوصف للذات إلا باعتبار غيرها فيسمونه حكماً لما كان لا يعلم للذات إلا باعتبار غيرها، والذي يجري مجرى الغير وجود الذات فإنه عندهم يجري مجرى غير الذات لما كان زائداً عليها، فيتعلق الحكم وهو صحة الفعل لإيجاد المقدور بين ذات المقدور وبين وجودها الذي يجري مجرى غيرها. وأخص: وهو أمر يعلم للذات زائداً عليها راجع إلى الإثبات تعلم الذات من دونه من دون اعتبار غيرها أو ما يجري مجرى غيرها ولا يعلم على انفراده من دونها، فأرادوا بقولهم راجعاً إلى الإثبات إخراج صفات النفي فليست بصفات بالمعنى الأخص، وأرادوا بقولهم: من دون اعتبار غيرها الخ. إخراج الأحكام فليست بصفات بالمعنى الأخص، وأرادوا بقولهم: ولا يعلم على انفراده من دونها. إخراج المعاني كالحلاوة والحموضة والحمرة والصفرة والقدرة والعلم والحياة، فإن هذه معاني تعلم على انفرادها من دون تصور الذوات القائمة بها، فإن الحلاوة تعلم على انفرادها من دون أن يعلم هل حلاوة عسل أم سكر أم عنب، وإن كان في الخارج لا توجد إلا في تلك الذوات أو نحوها وكذلك سائرها، فإنها عندهم ليست بصفات بالمعنى الأخص بل بالمعنى الأعم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنهم بعد ذلك فاعلم يقسمون الصفات إلى خمس: ذاتية،ومقتضاة، ومعنوية، وبالفاعل، وصفة الفعل، وعند جمهور أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم إلى اثنتين فقط: صفات ذات، وصفات فعل.(1/180)

36 / 311
ع
En
A+
A-