أنه تعالى لا أول لوجوده
وأما الأصل الثاني: وهو أنه تعالى لا أول لوجوده.
فقد ذكر دليله بقوله [ لأنه لو كان لوجوده أَوَّلٌ لكان مُحْدَثاً ] لأن ذلك حقيقة المحدَث وهو الموجود الذي لوجوده أول، وإن شئت قلت: هو الموجود بعد العدم، وإن شئت قلت هو الموجود بفعل فاعل، وإن شئت قلت هو الموجود مع الجواز، وإنما قلنا: لأنه لو كان لوجوده أول لكان محدثاً، للعلم الضروري من أن الموجود إما أن يكون لوجوده أول أم لا، الأول المحدث والثاني القديم، ولا يصح أن يكون لوجوده تعالى أول، إذ يكون بذلك محدثاً [ ولو كان ] تعالى [ مُحْدَثاً لاحتاج إلى مُحْدِث، ] للعلم الضروري أيضاً أن المحدَث لا بد له من محدِث، وهذا المحدث الذي لزم من فرض كونه تعالى محدثاً ننقل الكلام في شأنه بأن نقول: لا يخلو إما أن يكون محدثاً فيحتاج إلى محدث، ثم كذلك [ فيؤدي إلى ] فرض [ ما لا يتناهى، ] ولا ينحصر من المحدثين [ وذلك مُحالٌ، ] لأنه يؤدي إلى أن لا يوجد العالم حتى يوجد ما لا ينحصر من المحدِثين في جهة القَبْلِيَّة وهو محال، لأنا إذا فرضنا إلى ألف محدِث وأولهم محدَثاً توقف وجود هذا الألف على ألف قبله، ثم كذلك ما لم تقطع جهة التسلسل بفرض أحدهم قديماً، فإن فرضناه انقطع التسلسل وصح الحكم بوجود العالم، لكن إن فرضنا ذلك لأول محدِث وهو محدِث العالم كان ذلك القول صحيحاً لا يرد عليه اعتراض أصلاً فيجب الاقتصار عليه من أول وهلة، وإن فرضناه فيما بعده من سائر المحدثين صار إثبات الوسائط عبثاً قبيحاً وفتحاً لباب الجهالة وإثبات مالا طريق إليه فيعلم كونه باطلاً، وإن لم تقطع جهة التسلسل وبقيت مفتوحة لزم الحكم على العالم بالعدم حتى ينتهي التسلسل والمفروض عدم تناهيه، فيؤدي الحكم عليه بعدم الوجود وقد علمنا وجوده فنحكم عليه بالعدم في حال الوجود، وذلك جمع بين النقيضين وهو مستحيل فما أدى إليه فهو مستحيل، فلا يصح القول بحدوثه تعالى لما يؤدي إليه من(1/171)
المحال فيجب الحكم والقضاء البات أنه تعالى قديم لا أول لوجوده، وهذا واضح، فثبت أن الله تعالى قديم لا أول لوجوده، وبقي الكلام فيما يتصل بهذه المسألة من الفروع والأبحاث.
الأول: أنه لا يأتي في هذه المسألة من الاختلاف ما أتى فيما قبلها بين البهاشمة وبين أبي الحسين ومحمود وجمهور أئمتنا عليهم السلام هل هذه الصفة أمر زائد على ذات الموصوف بها أم لا، ولا بينهم وبين المجبرة أن القدم ليس معنى زائداً على ذاته، بل اتفق الجميع على أن القدم ليس صفة ولا معنىً زائداً على كونه موجوداً لا أول لوجوده، لأن مرجع ذلك إلى السلب، وهو أنه غير محدث، والسوالب كلها لا يفتقر المتصف بها إلى صفة وجودية ولا إلى معنى يصحح له ذلك، وكذلك كونه تعالى باقياً بما لا انتهاء له فإن ذلك راجع إلى السلب وهو نفي انتهاء وجوده، إلا أن القرشي رحمه الله روى عن الأشعرية والكُلاَّبِية: أن الباقي باق ببقاء زائد على ذاته. وكذلك قال الكعبي: شاهداً فقط.
شبهتهم: أن الذات تكون ذاتاً وإن تعقب عدمها فبقاؤها إذا لم تعدم معنى زائداً على ذاتها.
قلنا: ليس في بقاء الباقي شيء يشار إليه سوى وجود ذاته مستمرة، ولو كان معنى زائداً على ذلك لأمكن طروء ضده عليه إن كان بالفاعل مع استمرار وجود الذات وقتين فصاعداً كالعلم والجهل والقدرة والعجز والسواد والبياض ونحو ذلك من المعاني المتضادة على محلاتها مع بقاء المحل، وأيضاً فلو كان البقاء معنى زائداً على ذات الموجود الباقي، لصح مقارنته لأول أوقات وجود الموجود كالسواد والبياض والحركة والسكون وهو ما لا يعقل إلا في الوقت الثاني فما بعده، ولما كان فرق بين ما يبقى كالجسم والألوان ونحوها وما لا يبقى كالصوت ونحوه.(1/172)
الثاني: أن القديم قديم بذاته لا بفاعل لاستلزامه الحدوث فيناقض قدمه، ولا لعلة إن كانت محدثة فكذلك وإن كانت قديمة، فما قيل في قدمه قيل في قدمها وللزوم استغنائه عنها إذ كان قديماً مثلها، ولأنه ليس دعوى أن أحدهما هو المؤثر في قدم الآخر بأولى من العكس، فثبت أن القديم قديم بذاته، وأما كون الباقي باق بذاته، فإن كان قديماً كالباري فكذلك، ولعل أن الأشعرية ونحوهم ممن أثبت المعاني القديمة لله تعالى والكلام القديم يقولون: إنها باقية بذاتها ولذا يسمونها الدائمة، وسيأتي إبطال هذه المعاني من حيث هي فضلاً عن وصفها بقدم أو بقاء فضلاً عن كون ذلك القدم والبقاء فيها هو بالذات أم لا، وإن كان الباقي محدثاً فمحل نظر هل بقاؤه بذاته أم بفاعل تلك الذوات ؟ إن قيل: بالأول. فيشكل عليه الإجماع أنه لا باقي إلا الله وأن كل شيء سواه تعالى هالك ولزوم استغناء الوجود عن الله تعالى في وجوده فيكون موجوداً بذاته وهو محال لأنه يصير بذلك قديماً. وإن قيل: بالثاني. فيشكل عليه ما تقدم في الفرع الأول أن البقاء ليس معنى زائداً على ذات الباقي وأن تحصيل الحاصل محال.(1/173)
ويمكن الجواب على ما يرد على الأول بأن الإجماع محله غير محل البحث الذي نحن بصدده، لأنهم إنما أجمعوا على ذلك بمعنى أن الله تعالى يفني كل شيء ويهلكه لقيام الدليل السمعي بذلك ودلالة العقل على إمكانه وكلامنا في بقائه حتى يفنيه، وفي بقاء الأجسام والأعراض الباقية في الآخرة هل هو بالذات أم بفاعل تلك الذوات ؟ ولم يُجمعوا على أنه لا باقي بذاته لو لم يفنه الله تعالى ويهلكه إلا الله تعالى، وأما لزوم الاستغناء عن الله تعالى في وجود الباقي، فإن أريد بذلك إلزام الاستغناء في إيجاد ذلك الموجود فلا يُسلم اللزوم، وإن أريد في استمراره وجوده فهو محل البحث وللخصم أن يلتزمه بشرط أن لا يفنيه فاعل الذات، ولا يسبب عليه ما يستلزم إعدامه من طروء ضد ونحوه نحو ما يذهب منها بشدة الحر والبرد وسائر العاهات كالحيوانات والمياه والثمار وسائر الخضراوات.
ويمكن الجواب على ما يرد على الثاني بأن ما ذكر في الفرع الأول هو في هل البقاء صفة زائدة على ذات الباقي، وكلامنا هاهنا هل استمرار البقا هو بالفاعل أم بنفس الذات ؟ وهو يمكن القول بأن ذلك بالفاعل من دون أن يكون ثمة صفة زائدة على ذات الباقي إذ لا تنافي بين القولين، وأما لزوم تحصيل الحاصل فلا يُسلم أن هذا منه لأن تحصيل الحاصل المحال هو إيجاد الموجود بإعادة إيجاده الأول لا جعله مستمر الوجود فليس من ذلك.
فقد اندفع ما يرد على كلا القولين، وبقية المسألة محل نظر واحتمال، فيطلب الترجيح بالدليل الراجح، والأظهر هو القول الثاني لأن استمرار وجود الشيء هو من جنس إيجاد الشيء وفاعل الجنس هو فاعل ما هو من جنسه وإلا لزم أن الاستمرار إما مقتضى عن الذات أو مفعول للذات أو لا فاعل له، الأول باطل للزوم ذلك في كل ذات، وقد علمنا أن فيها ما لا يبقى كالصوت ونحوه والأخيرين محال، فثبت القول الثاني، ولزم بطلان الأول لأنه بمقابله.(1/174)
الثالث: فيما يجري على الله تعالى من الأسماء بمعنى موجود، ومعنى قديم، ومالا يجري عليه منها وإن أفاد الوجود، فالذي يجري عليه بمعنى قديم ثابت في الأزل عند أئمتنا عليهم السلام على رواية الأساس، ولا نعلم فيه خلاف إلا في إطلاقه على غيره تعالى عند مثبت الذوات في القدم، فأما الأزلي فينظر فيه هل ورد السمع به أم لا ولم يرد في القرآن، والسنة شرطها التواتر فيما يرجع إلى مسائل الأصول، فينظر في معناه إذا كان يطلق عليه تعالى حقيقة بأن حصل معناه في حق الله تعالى على جهة الحقيقة ولا يستلزم إيهام خطأ، فأصول أئمتنا عليهم السلام وموافقيهم لا تمنع منه، ويأتي على أصول القائلين بأن الأسماء توقيفية المنع إلا أن يرد في سنة أو إجماع فهذا هو مقتضى أصولهم.
فعلى أصل أئمتنا عليهم السلام ينظر أولاً معناه في اللغة قال السيد هاشم بن يحيى رحمه الله تعالى في تعليقه على شرح القلائد للنجري وحاشيته للعلامة سيدي الحسن بن أحمد الجلال رحمهما الله ما لفظه: الأزل على ما في التعريفات: استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي.
كما أن الأبد: استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل.
والأزلي: مالا يكون مسبوقاً بالعدم كذا في التعريفات انتهى.
وإذا كان هذا معناه الحقيقي فقد حصل هذا المعنى في حقه تعالى فلا مانع من إجرائه على الله تعالى، والله أعلم.
والأول معناه: الوجود قبل وجود كل شيء وكذلك أول الأولين ولا بد أن يزاد بما ليس له ابتداء.
والآخِر معناه الموجود بعد فناء كل شيء، وكذلك آخر الآخرين ولا بد أن يزاد بما ليس انتهاء.(1/175)