تعالى قادر عالم. الثاني: أن القادر العالم له تعلق بمقدوره ومعلومه، الثالث: أن العدم يحيل التعلق.
ثم يصححون كل واحد من هذه الثلاثة الأصول بأن يقولوا: أما أنه قادر عالم فقد مر الكلام عليه في مسألة قادر ومسألة عالم، وأما أن للقادر تعلق بمقدوره ومعلومه، فمعناه أنه يصح منه إيجاده وإحكامه، وأما أن العدم يحيل التعلق، فلأنا وجدنا معاني متى عدمت وجدت تعلقت ومتى عدمت عدم تعلقها وذلك كالإرادة والكراهة والاعتقاد والقدرة. قال النجري: ونحوها، قال المحشي: كالشهوة والنفرة، قالوا: فيقاس عليها كلما شاركها في هذا المعنى. فإذا كان الباري قد شاركها في وجود التعلق حيث أن له تعلق بمقدوره ومعلومه وجب أن يشاركها في الحكم وهو الوجود فيجب أن يكون تعالى موجوداً، وإذا تأملت هذا الدليل الذي جعلوه عمدتهم في وجود الباري تعالى وجدته كما قال شارح الأساس رحمه الله: لا يدل المقصود إلا على سبيل التمحل والتكلف، ولنورد على كل واحد من هذه الأصول ما يدل على ذلك فنقول:(1/166)


أنه تعالى قادر
أما الأول: وهو أنه تعالى قادر عالم.
فنقول: لِمَ جعلتموها أصلاً لكونه موجوداً وهما لم يعلما إلا بعد أن عرف الصانع اللذان هما من صفاته ؟ لأنه إن علم الصانع عندهم مع العلم لهم بوجوده أغناهم ذلك عن الاستدلال لكونه قادراً عالماً على وجوده، وإن علم الصانع عندهم من دون أن يعلم لهم وجوده كابروا ما يعلم بالبديهة والوجدان من حال النفس أن العلم بوجود الفاعل سابق على العلم بكونه قادراً عالماً، ولأن العلم بوجود المؤثر متوقف على العلم بوجود الأثر فقط، والعلم بكونه قادراً عالماً متوقف على ذلك وعلى العلم بأن ذلك الأثر صدر عن مؤثره على سبيل الجواز في قادر، وعليهما مع العلم بالإحكام في عالم فقد توقف العلم بوجوده على العلم بحدوث العالم بأول مرتبة بكونه قادراً ثابتاً في مزيته ومثله حي، وبكونه عالماً بثالث مرتبة، وأيضاً فإنه لا خلاف بين أهل التوحيد وأهل الإلحاد في أن المؤثر في العالم موجود، وإنما اختلفوا في أنه قادر عالم ونحوهما، فكيف يجعل المختلف فيه أصلاً لإثبات المجمع عليه ؟ وأيضاً فإن اتفاق العقلاء قاطبة على أمر من الأمور يلحقه بالضروريات، فكيف يسع أحداً بعد ذلك أن يسعى لإثباته بأمر هو من متفرعاته المختلف فيها ؟
وأما الأصل الثاني: فقالوا فيه والقادر العالم لا يكون إلا موجوداً كما قالوا في حي، والقادر العالم لا يكون إلا حياً، ويكمل الاستدلال بذلك ويستغنى به عن الأصل الثالث، وعن التكلف والتمحل لإثباته بذكر التعلق مع بعد مسافة تصحيحه الذي دونه خرط القتاد.(1/167)


وأما الأصل الثالث: فهو مع كونه صار عبثاً مع إمكان أن يقال في الأصل الثاني والقادر العالم لا يكون إلا موجوداً، يرد عليه أن قياس الباري تعالى على الإرادة والشهوة ونحوهما من سائر المعاني بجامع التعلق فلما تعلقت حُكِمَ لها بالوجود، غير أن قياس الباري لا يصح أن يقال فيه تعالى لما تعلق حُكِمَ له بالوجود، لأنه تعالى لا يصح تعلقه بشيء ولأنه تعالى موجود. قبل ذلك التعلق لو سلمناه، وقولهم: وأيضاً فتعلق هذه المعاني بما تعلقت به، مختلف من حيث أن الإرادة والكراهة عندهم معنىً شاهداً وغائباً يتعلقان بالمراد والمكروه في الشاهد قبل وجودهما وبعده وحاله، وفي الغائب حاله فقط، والقدرة في الشاهد معنى، وفي الغائب عندهم صفة ذاتية ومقتضاة عن الذاتية وتتعلق بالمقدور حال عدمه شاهداً وغائباً ولا تتعلق بالموجود شاهداً ولا غائباً، وأما الاعتقاد والشهوة والنفرة فمما لا يجوز على الله تعالى، فكيف تُجعل محلاً لقياسه تعالى عليها ؟ وأيضاً فقولهم: والعدم يحيل التعلق، إن أريد به عدم المقدور والمعلوم فلا يُسلم إلا حاله لأن القدرة والعلم يتعلقان بالمعدوم ليصح إيجاده محكماً، وإن أريد به عدم القادر والعالم لم يصح أن يقاسا بعدم الإرادة والكراهة، بل بعدم المريد والكاره وهو مسلم ويعود إلى قولنا، لأن الحكم باستحالة تعلق الإرادة والكراهة بالمريد والكاره حال عدمهما داخل تحت الحكم باستحالة تعلق الفعل بالفاعل حال عدمه دخول الأخص تحت الأعم، فبطل ما قالوه وظهر صحة ما قاله سيد المحققين: إن دليل التعلق لا يدل على المقصود إلا على سبيل التمحل والتكلف.(1/168)


وقد شنع عليهم القاضي العلامة فخر الإسلام عبد الله بن زيد العنسي رحمه الله تعالى حيث جعلوا العلم بوجوده تعالى استدلالياً، وجعلوا الصفات الأربع من كونه تعالى قادراً وعالماً وحياً وموجوداً مقتضاة عن ذاته تعالى أو عن الصفة الأخص وهي مقتضاة عن ذاته تعالى، قال: ونحن لا نعتقد الصفة الذاتية ولا المقتضاة ولا أن بعض الصفات تؤثر في بعض على جهة الاقتضاء ولا أن ذلك من مذاهب الأنبياء ولا من دين محمد المصطفى ولا علي المرتضى ولا المتقدمين من أهل البيت النجباء صلوات الله عليهم جميعاً، قال: ومن سمع بمقالتهم هذه وهي تجويز حصول العالم وحدوثه ممن ليس بموجود قادر عالم سخر بها غاية السخرية إلى قوله: وهذه ضحكة لا ينبغي ذكرها إلا على وجه التحذير منها، لأنه لازم لهم على ذلك المذهب الذي ذهبوا إليه، فهم أَلزموا ما يلزمهم من ذلك وإن كان شنيعاًجداً.
وشنع عليهم أيضاً بذلك الشيخ محمود الملاحمي من المعتزلة، قال القرشي رحمه الله تعالى في المنهاج منتصراً للبهاشمة ما لفظه: وأما ما شنع به الشيخ محمود على أصحاب أبي هاشم من أنهم يجوزون بعد إقامة الدلالة على أن الله تعالى قادر عالم حكيم مرسل مثيب معاقب أن يكون مع ذلك معدوماً حتى تقوم الدلالة على وجوده، وأنه متعجب من هذا ومستظرف له.
فيمكن الجواب عليه بأن يقال: من أين لك أن أصحاب أبي هاشم يجوزون كونه معدوماً بعد إقامة الدلالة على كونه قادراً عالماً أو ليس كونه قادراً عالماً هو الدليل على كونه موجوداً، فكيف يجوزون كونه معدوماً مع قيام الدليل على وجوده، بل لا يجوزون ذلك ولا يجوزه المميز من العوام، لأن من علم كونه قادراً عالماً علم كونه موجوداً على الجملة، وإنما يستدلون على تفصيل ذلك وكيفية دلالة كونه قادراً عليه.(1/169)


قلت: ويمكن الجواب على القرشي: بأنه عَلِمَ الشيخ محمود وغيره ذلك من قول أصحاب أبي هاشم: إن العلم بأن الفعل لا يصح إلا من فاعل استدلالي لا ضروري ولا يعلم إلا بعد إقامة دليله لأن الفاعل أخص والموجود أعم، فإذا قالوا: بعد وجود الفعل لا يعلم الفاعل وهو الأخص إلا بدليل، فقد قالوا: لا يعلم الموجود الفاعل بعد فعله إلا بدليل، ومن حيث أن من المعلوم أنه لا يأخذ في الاستدلال على ثبوت الشيء إلا من يُجَوِّز خلافه، إذ لو كان قاطعاً به قبل الاستدلال عليه لم يصح له الاستدلال عليه، ومن ثمة شرطوا في إيصال النظر إلى العلم أن لا يكون الناظر قبله قاطعاً بأحد طرفي المنظور فيه، وقوله: أوليس كونه قادراً عالماً هو الدليل على كونه موجوداً، يقال له: نعم ليس هو الدليل على كونه موجوداً، بل الدليل على كونه موجوداً نفس الفعل كما سلف تقريره، وأن العلم بوجود فاعل الفعل سابق على العلم بأن فاعله قادر حي عالم، وقوله: ولا يجوزه المميز من العوام، إقرار منه بأنه ضروري فلا حاجة إلى ما ذكروه من الاستدلال على ذلك، وقوله: لأن مَنْ عَلِمَه قادراً عالماً عَلِمَه موجوداً على الجملة الخ، إن أرادوا بما ذكروه من الجملة والتفصيل عودهما إلى موجود فليس الوجود يوصف بذلك إذ لا يختلف الوجود ولا يدخله الإيهام ولا التزايد حتى يدخله الإجمال والتفصيل، وإن أراد عودهما إلى العلم فملاحظة الإنكار كونه ضرورياً، فيتناقض قوله: ولا يُجَوِّزه المميز من العوام، فهذا الكلام على الأصل الأول.(1/170)

34 / 311
ع
En
A+
A-