ثم إذا قيل: ولم وصفتموه بحي مع أنه لا وجود لتلك الحياة المذكورة فيه تعالى؟ ولما صح منه تعالى الفعل والإحداث على الوجه المذكور مع فقد تلك الحياة؟
قلنا: أما الجواب عن السؤال الأول: فقد علم مما مر أنا وصفناه بأنه حي لأجل صحة الفعل والإحداث منه.
وأما الجواب على السؤال الثاني فنقول: إنه صح منه سبحانه الفعل لأجل ذاته المقدسة عن الحدوث والمشابهة، وتقول البهاشمة ومن وافقهم في جواب ذلك السؤال: لأجل الصفة الراجعة إلى ذاته تعالى المعلومة من قولنا: هو حي، وليست تلك الصفة معنى قائماً به تعالى بل حالة زائدة على ذاته تعالى، وجواب الأشعرية والمجسمة: لأجل المعنى القديم القائم بذاته أو الحال في ذاته المعبر عنه بالحياة، ثم اتفق الجميع أنه لا يجوز أن يطلق على الله تعالى لفظ حيوان لأنه خاص بالجسم بحياة محدثة تزول بطروء ضدها وهو الموت.
إن قيل: فقد استعملتم لفظ الحي في غير ما وضع له في الأصل وهو أنه مشتق من الحياة، وذلك أنكم أنتم والبهاشمة استعملتم اللفظ فيمن يصح منه الفعل لأجل ذاته أو لأجل الصفة الزائدة.
قلنا: هذا وارد على الجميع لأن الأشعرية والمجسمة استعملوا الحي في غير ما وضع له، لأن المعنى القديم لم يريدوا به المعنى المعقول من لفظ الحياة في الشاهد الذي في ماهيتة وآنيته جائز الوجود وجائز العدم وتقرر في العقول أنه محدث يضادده الموت عند طروئه عليه بفعل الفاعل، بل أرادوا به معنى آخر قديماً يعبر عنه بالحياة وإنما عبر عنه بالحياة لصحة الفعل منه.(1/161)
فقد ظهر لك أن كلام الجميع بالنسبة إلى الاشتقاق من الحياة استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فيرد الإشكال على الجميع أن لفظة الحي لا تطلق عليه تعالى إلا مجازاً من إطلاق الملزوم على اللازم، فلزم الجميع التخلص عن هذا السؤال، وجوابه الذي لا بد للجميع من الرجوع إليه هو أن يقال: إن الحي وإن كان بالنظر إلى لفظه مأخوذ من لفظ الحياة، فإنما ذلك بالنسبة إلى الألفاظ لا بالنسبة إلى معانيها المعقولة منها، فليس الاعتماد فيها على قواعد الاشتقاق وهو ملاحظة المعنى المشتق منه للاسم المشتق من مصدره على جهة الفاعلية كضارب أو المفعولية كمضروب أو الصفة اللازمة كضرّاب وهذا في صفات الأفعال، وكأسود وأبيض وحالي وحامض في صفات الذات،وإنما المعتمد في المعاني المعقولة فيما نحن بصدده هو النظر إلى ذواتها وأحكامها من العقلية من الصحة والجواز والوجوب والاستحالة واللزوم وعدمه، وقد نظرنا الاشتقاق والوضع اللغوي فوجدناه تارة يكون في أصل اللغة بمعنى من المعاني المتواضع عليها، ثم قد يستعملُ بالتعارف العام أو الخاص في معنى آخر من لوازم ذلك المعنى الأصلي ويكثر استعماله فيه من دون قرينة ولا تناكر ولا مانع عقلي ولا سمعي، فيكون حينئذ حقيقة عرفية عامة أو خاصة، فإذا انضم إلى ذلك ورود السمع به وإيجاب إثباته واعتقاده لذات واحدة بالاختصاص كالإله وكالحي القيوم وكالقادر على كل المقدورات والعالم بكل المعلوم أو بالاشتراك كحي وقادر وعالم، وجب الانقياد لذلك وصار اللفظ وهو قولنا: حي مستعملاً في ذلك اللازم وهو صحة الفعل حقيقة بالنقل عن المعنى اللغوي الأصلي وهو أن قولنا: حي، موضوع لمن حلته الحياة المحدثة اللازم من وجودها صحة الفعل وهذه صحة الفعل ثابتة لله تعالى لأجل ذاته تعالى، فيصير إثبات الصفة الزائدة وإثبات المعنى قولاً لا موجب له، يزيده وضوحاً اتفاق الجميع على منع أن يطلق عليه تعالى لفظ حيوان لما كان تفيده الحياة المستلزمة التجسيم(1/162)
والحدوث، والله أعلم.
الثالث: فيما يجري على الله تعالى من الأسماء بمعنى حي، ومالا يجري عليه منها.
فالذي يجري عليه تعالى سميع بصير عند بعض أئمتنا عليهم السلام، والبصرية وعند بعضهم والبغدادية هما بمعنى عالم كما مر في مسألة عالم، وسيأتي تحقيق القول الصحيح إن شاء الله تعالى في مسألة سميع بصير، ولم يذكر القرشي في المنهاج ولا شيخنا في السمط غيرهما، والأظهر أن الباقي والدائم يفيدان ذلك في حقه تعالى، يدل عليه إطباق المسلمين على قولهم عند مشاهدة الموتى: لا يبقى ولا يدوم إلا الله، فلولا أنهم أرادوا واعتقدوا وصفه تعالى بأنه حي لا يموت لما كان لذكر ذلك في تلك الحال معنى والله أعلم.
ويمتنع عليه تعالى حيوان وروحاني ونفساني لإفادتها التجسيم والحدوث.(1/163)
فصل في الكلام في أن الله قديم
وأن ما ثبت له من الصفات الأربع من أنه تعالى موجود، وقادر، وعالم، وحي ليست لفاعل، ولا لسبب، ولا لعلة، ولا لمعنى، ولا لمقتضي، ولا لشيء غير ذاته تعالى، لأن إثبات شيء سوى ذاته تعالى ينافي توحيده.
قال عليه السلام : [ فإن قيل لك: ] أيها الطالب الرشاد [ أربك قديم؟ ] وحقيقة القديم في أصل اللغة: ما تقادم وجوده كقولهم بناءٌ قديم ورسم قديم ومنه قوله تعالى: ?حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ?.
وفي الاصطلاح ما ذكره عليه السلام بقوله: [ فقل: هو موجود لا أَوَّلَ لوجُودِه ] وإنما لم يقل: فقل: نعم، أو فقل: هو قديم كما في غير ذلك مما مر لأن الغالب في استعمال لفظة قديم هو الحقيقة اللغوية فلا يفيد المراد مما عقد له هذا الفصل وهو أنه تعالى غير محدث فقال: هو موجود لا أول لوجوده، يفيد أنه إن وقع السؤال عن اتصافه بقديم لغة فلا، وإن وقع السؤال عن اتصافه تعالى بقديم اصطلاحاً فنعم، وهذا الدليل مبني على أصلين: أحدهما: أنه تعالى موجود، والثاني: أنه تعالى لا أول لوجوده. فيلزم منهما أنه تعالى قديم.
أما الأصل الأول: وهو أنه تعالى موجود.(1/164)
فاستغنى المؤلف عليه السلام عن ذكر دليله إما موافقة للجمهور من أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم أن ذلك معلوم ضرورة بعد إثبات أنه الصانع المختار، وإما تفخيماً لشأنه تعالى عن الاشتغال بأدلة ذلك في حقه تعالى، والموجود لا حد له لأنه من البديهيات الجلية، ولا نجد إلا الأمور الاكتسابيات الخفية خلافاً للبهاشمة ومن وافقهم في إثبات الذوات في حالة العدم وجعل الموجود أمراً زائداً على ذات الموجود، فإنهم لما ذهبوا إلى ذلك احتاجوا إلى تحديد الموجود وإثبات الدلالة على وجوده تعالى، فقالوا: حقيقة الموجود هو المختص بصفة لكونه عليها تظهر عندها الصفات والأحكام المقتضاة عن الذات، ثم يقولون: تلك الصفة هي كونه موجوداً ويرد عليه ما ورد على ما قبله في حد القادر والعالم من توقف معرفة الحد على توفر معرفة المحدود، ويختص هذا الموضع بأن يقال: الصفة المقتضاة عن الذات ثابتة عندكم لكل ذات موجودة كانت أو معدومة كما قال الإمام المهدي عليه السلام في غرر الفوائد عنهم ما لفظه: كما أن الذات لا تخرج عن كونها ذات لا تخرج عن كونها مقتضية، وهم يقولون: هي ذات في حال عدمها فيلزمهم أن تكون مقتضية في حال عدمها، فتشبه القول بحصول الأثر في حال عدم حصول المؤثر، وهو محال وما أدى إليه فهو باطل، لكنهم يدفعون هذا الإيراد بأن يقولوا: بشرط الوجود وهذا كما ترى فراراً من الإلزام وهو لا يصح على ظاهر عبارة الإمام عليه السلام ، ويقال أيضاً: ما تريدونه بقولكم تظهر عندها الصفات ؟ هل المراد توجد ؟ فأنتم في تحديد الموجود أو تثبت فالثبوت يصح عندكم في حالة العدم أو تعلم فالعلم يصح أن يتعلق بالمعدوم أو تبرز فمن أين وإلى أين ؟ وقالوا في إثبات الدلالة على وجوده تعالى: قد ثبت أنه تعالى قادر عالم، والقادر العالم له تعلق بمقدوره ومعلومه والعدم يحيل التعلق، وهذا هو الدليل المعتمد عندهم المسمى دليل التعلق وتحريره على ثلاثة أصول: الأول: أنه قد ثبت أنه(1/165)