وهذا كما ترى احتجاج بمحل النزاع، وهو معترض بأن صفة حي تصحح سائر صفات الجملة من الشهوة والنفرة واللذة والألم، فالإلزام باق وفيه قلب المدلول دليلاً من حيث أن مساق الكلام في أن القادر العالم يصحح كونه حياً وهو جعل الكلام بالعكس كما ترى، فالأولى في الجواب وإن كان لا يلزم على طريقتنا إلا لإزاحة الشبهة عمن يمكن القدح بها عليه بأن يقال: أما ما ألزمتمونا به في لزوم الجسمية في الغائب قياساً على الشاهد، فهو وارد عليكم في العلة التي تزعمونها مؤثرة في العَالَم بأن يقال: العلة في الشاهد وهي ما أثر على سبيل الإيجاب يجب أن تكون جسماً أو عرضاً كالجسم في وجوب التحيز، والعرض في وجوب الهيئة في الجسم، فكما قلتم في العلة المؤثرة في العَالَم ليست التحيز والعرض في وجوب الهيئة في الجسم فكما قلتم في العلة المؤثرة في العالم ليست بجسم ولا عرض قلنا مثل ذلك في الفاعل المختار، وأمّا سائر ما ذكرتموه فمتفرع على الجسمية فلا يلزم الاعتراض بما هو من شأن الفرع بعد انتفائه لانتفاء الأصل المتفرع عنه.
والتحقيق: أن ما ذكر من كون الحي في الشاهد يجب أن يكون جسماً يتحرك ويسكن، وتصح عليه الشهوة والنفرة واللذة والموت والعجز والجهل ليس متفرعا على مجرد كونه قادرا عالما لا غير، بل على ذلك مع كونه محدثا، والله تعالى ليس بمحدث والقادر العالم الحي من خاصية الفاعل المختار أعم من أن يكون محدثاً أو قديماً، فلا يلزم فيمن اتصف بأنه قادر عالم حي أن يكون جسماً متحركاً أو ساكناً أو نحو ذلك إلا إذا كان محدثاً، وهذا واضح والله أعلم(1/156)


إن قيل: كيف ساغ لكم دعوى أن العلم بكون الفاعل المختار يجب أن يكون حياً ونحوه ضروري، وهؤلاء أهل الإلحاد ينكرون العلم بذلك فضلاً عن أن يكون ضرورياً، وهؤلاء إخوانكم المسلمين من المعتزلة وجماعة من الزيدية يقولون: العلم بذلك استدلالي ولو كان ضرورياً لما أنكره أهل الإلحاد رأساً ولما جعله هؤلاء المسلمون استدلالياً، بل كان سبيل الجميع أن يعلموه ضرورة لأن الضروريات يشترك فيها العقلاء جميعهم كما في سائر الضروريات ؟
قلنا: الضروري مهما توقف العلم به على علم استدلالي لم يحصل إلا بعد النظر في ذلك العلم الاستدلالي حتى يتقرر ويثبت في النفس، فمتى حصل ذلك الاستدلالي وثبت في النفس لزم معه حصول العلم الضروري بما هو من لازم ذلك المعلوم استدلالاً، وليس هو ضروري بكل حال حتى يلزم ما ذكره السائل، فإن أهل الإلحاد إنما أنكروا العلم بكونه تعالى حياً لإنكارهم أنه فاعل مختار وهو أمر استدلالي، والمعتزلة ومن وافقهم إنما قالوا: إنه استدلالي لشبهة سبقت إليهم وهو أنه لا يصح أن تعلم الذات والصفة ضرورة، وهذا لا يرد علينا إلا إذا قلنا إن الصفة تُعلم ضرورة بكل حال عُلمت الذات أم لا.
إن قيل: فالضروري مالا ينتفي عن النفس بشك ولا شبهة وهؤلاء قد انتفى عنهم العلم بكونه ضرورياً لتلك الشبهة المذكورة،وأهل الإلحاد انتفى عنهم العلم بكون الله تعالى حياً بما حرروه من الشبه التي أفضت بهم إلى ذلك القول.(1/157)


قلنا: قد يكون العلم ضرورياً والعلم بكونه ضرورياً استدلالي، ألا ترى أن العلم بتعلق الفعل بفاعله من حيث أن العِمَارة لا تصح إلا من عَمَّار معلوم لكل عاقل علما ضرورياً بحيث لا يختلف في ذلك اثنان، فهاهنا أمران كل واحد منهما معلوم لنا أحدهما صفة للآخر، فالموصوف العلم والصفة كونه ضرورياً، فالعلم بكون العمارة لا تصح إلا من عَمَّار حاصل لكل عاقل، فأما كونه ضرورياً فإنما استدللنا عليه بقولنا: بحيث لا يختلف في ذلك اثنان، فلما نظرنا أنه لا يختلف في ذلك اثنان علمنا أن ذلك العلم ضروري، فالذي تطرقت إليه الشبهة وأثرت انتفاءه عند من ذكر من المعتزلة ومن وافقهم هو كونه ضرورياً لا نفس العلم من ذاته فهو باق لديهم، وإنما خلافهم في كونه ضرورياً فتأمل.
وأما انتفاء العلم بكونه تعالى حياً عند أهل الإلحاد فلا يقدح في كونه ضرورياً إلا لو قدرنا موافقتهم لنا في كونه تعالى فاعلاً مختاراً ثم يخالفون في كونه حياً، فأما وهم مخالفون في نفس إثبات الصانع فلا يقدح على من أثبته فاعلاً مختاراً في العلم الضروري أنه حي، لأن مثابة هذا الخلاف مثابة رجلين رَأَيا شبحاً على بعد علمه أحدهما قطنا وظنه الآخر حجراً، فالعلم الأول أنه قطن وإن كان عن استدلال لا يقدح عليه إنكار مخالفه في أن النار محرقة ضرورة لما خالفه في الأصل أنه قطن واعتقد أنه حجر إذ لو سلم أنه قطن لعلم أن النار تحرقه ضرورة فتأمل.(1/158)


وإنما أخر هذا المبحث عن مسألتي قادر وعالم لتعلقه بالثلاث المسائل وبمسألة موجود، فإن العلم بالأربعة الأوصاف ضروري عند العلم باحتياج العالم إلى فاعل مختار، وخلاف المعتزلة ومن وافقهم في جعل ذلك استدلالياً هو في الأربعة أيضاً، فبعد أن يفرغوا من الاستدلال على الثلاث المسائل الأُول من كونه تعالى قادراً وكونه عالماً وكونه حياً يأخذون في الاستدلال على كونه موجوداً، ولم يجعلوا نفس وجود العالم وحدوثه دليلاً على وجودها بل يطلبون له دليلاً آخر يسمونه دليل التعلق، وإذا لم يجعلوا وجود العالم وحدوثه دليلاً على وجود صانعه تعالى فماذا بعده من دليل هو أنهض في الدلالة على وجود الصانع؟! فإن دليل التعلق الذي ذكروه هو كما قال شارح الأساس رحمه الله: لا يدل على المقصود إلا على سبيل التمحل والتكلف والله أعلم، وصدق عليه السلام ، فإن دليل التعلق الذي جعلوه عمدة الاستدلال على كونه تعالى موجوداً لا يدل على المقصود إلا على سبيل التمحل والتكلف، وسيأتي الرد عليهم وإبطال مقالتهم في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى، فإذا ثبت أن الله تعالى حي على حسب ما مر من القول عند جمهور أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم: إن العلم بذلك بعد تقرير العلم بإثبات الصانع هو ضروري أو على قول البعض منهم ومن وافقهم: إنه استدلالي، فلنتكلم فيما يتصل بهذه المسألة من الفروع والمباحث:
الأول: زعمت البهاشمة ومن وافقهم من الزيدية كالقرشي وغيره: أن للحي بكونه حياً صفة زائدة على ذاته شاهداً وغائباً على نحو ما قالوه في مسألتي قادر وعالم، وتلك الصفة راجعة إلى جملة الحي في الشاهد وإلى ذات الباري تعالى في الغائب، ويجعلونها حالة لها بها فارقت الميت والجماد.(1/159)


وذهب أبو الحسين وابن الملاحمي: المرجع بكونه حياً إلى: أنه لا يستحيل الفعل لأجل البنية المخصوصة في الشاهد ولأجل نفس الذات في الغائب، ولم يثبتا صفة زائدة للحي بكونه حياً لا شاهداً ولا غائباً كما مر، بل يثبتا مَزِيَّة لهما كما مر في قادر وعالم.
وقال جمهور أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم بمثل قول البهاشمة والقرشي في الشاهد فقط، ومثل قول أبي الحسين وابن الملاحمي في الغائب إلا في المزية، فأثبتوا الصفة لجملة الحي حالة زائدة على مجرد البنية التي اكتفى بها أبو الحسين وابن الملاحمي في كون الشاهد حياً، وجعلوا بكونه الغائب حياً إلى مجرد ذاته من دون ثبوت حالة أو صفة زائدة على ذاته تعالى.
وقالت المجبرة: المرجع بكون الحي حياً إلى معنى قائم به يعبر عنه بالحياة لأجله كان حياً، وهذا المعنى في الشاهد محدث حال فيه، وفي الغائب قديم قائم به، وسيأتي تقرير القول الحق في الفصل الآتي إن شاء الله.
الثاني: أن لفظة الحي مشتقة من الحياة، والمفهوم من إطلاق لفظها هو وجود معنى متى قام بالجسم كان حياً، وهذا المعنى هو أمر وجودي محدث مخلوق في ذاته قال تعالى: ?الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ? {الملك:2}، فهو أمر مضادد للموت نقيض له، ويلزم من وجوده صحة أن يقدر ويعلم اللازم منهما التمكن من الفعل والإحداث لا على سبيل الإيجاب والاضطرار بل على سبيل الإرادة والاختيار بمعنى إن شَاءَ فعل وإن شاءَ ترك، ولكون وجود هذا المعنى الذي قد ظهر لك ماهيته وحدوثه وأنه نقيض للموت مستحيل في حق الباري تعالى، لزم أن نطلق لفظ الحي عليه تعالى ونريد به اللازم من الحياة في الشاهد وهو التمكن من الفعل والإحداث، فنصفه تعالى بأنه حي لأنه صح منه الفعل والإحداث، لأن المعنى المذكور قام به أو حل فيه كما تقولوه الأشعرية والمجسمة.(1/160)

32 / 311
ع
En
A+
A-