كالمباحات، فلزم حسن جميع العلوم إلا ما كان منها شاغلاً عما هو أهم منه كالهندسة ومساحة الأرض والكيمياء والقصص الخارجة عما فيه اعتبار المكلف وكتعلم الفلسفة المفضية إلى الإلحاد، وتعلم السحر إذا كان القصد العمل به لا لتوقيه، فقبح ذلك لا لذاته بل لما عرض من كونه شاغلاً أو نحو ذلك، فظهر لك أن العلم في ذاته حسن بكل حال، والجهل به قبيح في بعض الأحوال، وهذا بالنسبة إلى الجهل البسيط: وهو عدم العلم بالشيء أعني أن قبحه في بعض الأحوال وليس بقبيح في بعضها، فأما الجهل المركب فهو قبيح بكل حال: وهو اعتقاد المعلوم على خلاف ما هو عليه لأن اعتقاده على خلاف ما هو عليه نوع من الكذب والخرص إن كان لا عن شبهة وقد قال تعالى: ?وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ? {الإسراء:36}.
فينبغي للمكلف الاشتغال من العلوم بالأهم فالأهم وهو ما كان متعلقاً بالمصالح الدينية أصولها وفروعها ومعقولها ومسموعها، وتجنب الجهل حيث يقبح ما استطاع، وعدم الاشتغال بالعلوم التي لا نفع فيها ولا ضرر في الجهل بها، وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم: مر بناد في قريش وهم جلوس حول رجل يستمعون منه فقال: "ما هذا؟ فقيل له: علامة يستمعون منه فقال: ماذا يسمعون منه؟ فقالوا: أشعار العرب وأنسابها فقال صلى الله عليه وآله وسلم: علم لا ينفع وجهل لا يضر"، وهذا من جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وآله وسلم، وما ذكرناه يعود إلى معناه والله أعلم.
العاشر: فيما يجري على الله من الأسماء بمعنى عالم، وفيما لا يجوز منها وإن أفاد العلم وصفة المدح في الشاهد.
فالذي يجري على الله تعالى بمعنى كونه عالماً عليم وعلام، وداري وعارف عند البعض، وصححه شيخنا رحمه الله تعالى وحجة من منعه: أن المعرفة هي العلم المسبوق بالجهل.(1/151)


قلنا: بله يستعمل في مطلق العلم وإن لم يسبق بجهل، وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطب النهج: أَجَّلَ الأشياء لأوقاتها، إلى قوله عليه السلام : عارفاً بها قبل ابتدائها إلخ.
وسميع وبصير وسامع ومبصر ومدرك كلها عند جمهور أئمتنا عليهم السلام والبغدادية بمعنى عالم بالمسموع والمبصر وسائر المدركات مما يدرك شاهداً بحاسة الشم والطعم واللمس، ويَّعبر عن العلم بالثلاثة الأخيرة بمدرِك بمعنى عالم بها، ولا يعبر عنها بشام وطاعم ولامس لإيهام التجسيم، وأما المسموع والمبصر فيصح التعبير عن العلم بها بسميع وبصير وبسامع ومبصر ومدرك لورود السمع بذلك ولا خطأ ولا إيهام.
وحكيم بمعنى عالم بالحكمة، وأما بمعنى مُحكِم فصفة فعل، فيفيد عالم باللزوم لا بالوضع والمطابقة.
وواجد عند البعض لقوله تعالى: ?وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى? {الضحى:7}، أي عَلِمَك، وقيل: يُقَر حيث ورد لإيهامه الخطأ من حيث لا يكاد يطلق الوجدان إلا بعد الطلب.
والرائي بمعنى: عالم لا بمعنى المشاهدة، لأن الرؤية تارة تستعمل بمعنى المشاهدة وتتعدى إلى مفعول واحد كرأيت زيداً، وتارة تستعمل بمعنى العلم وتتعدى إلى مفعولين كرأيت زيداً غنياً بمعنى علمته غنياً.
والرقيب والحفيظ لا بمعنى المتحفظ ولا يجوز، ولا بمعنى الحافظ فصفة فعل.
والشهيد والخبير والمطلع كلها تصح بمعنى عالم.
ويستعمل الشهيد في الشاهد بالحق ?فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا? {النساء:41}، وفي المقتول في سبيل الله أو في غيره ظلماً، فالأول صفة فعل لا مانع من إطلاقه على الله تعالى ?وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا? {الفتح:28}، والثاني مستحيل في حقه تعالى.
ويستعمل الخبير تارة بمعنى العالم بكنه الشيء وهو المراد هنا،وتارة بمعنى المخبِر كسميع بمعنى المسمع فيكون صفة فعل، فيفيد عالماً لزوماً كحكيم بمعنى مُحكِم.(1/152)


ويستعمل المطلع تارة بمعنى العالم بالسرائر وهو المراد هنا،وتارة بمعنى المشاهد من المكان المرتفع إلى المكان المنخفض فلا يجوز على الله تعالى بهذا المعنى، قيل ولأجل ذلك لا يجوز إطلاقه على الله تعالى للإيهام، بل يُقَر حيث ورد.
قلنا: قد تعورف به بمعنى العالم، فلا مانع ولورود السمع به.
والواسع قيل: معناه العالم، وقيل: معناه الغني، وقيل: معناه المكثر من العطاء، وقيل: يُقَر حيث ورد لإيهام الخطأ وهو الاتساع في الجسمية، فلا يطلق إلا مضافاً نحو واسع الرحمة واسع المغفرة، لنا: قوله تعالى: ? وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ? {المائدة:55}.
وأما الأسماء التي لا تجوز على الله تعالى فكقولنا: فقيه، وطبيب، وشاعر، وفطن، ومتبين ومتحقق، ومتبصر، وحاذق، وذكي، ومتيقن، وعاقل، ولبيب، وساكن النفس، ومطمئن، ومعتقد، ومتعجب، ومحيط إلا مع القيد نحو ?أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ? {الطلاق:12}، هكذا قاله شيخنا والقرشي رحمهما الله تعالى،والأظهر في المحيط جوازه من دون قيد كقولهم لا إله إلا الله الحفيظ المحيط بلا تناكر ولوروده في السمع، وأما الغم، والندم، والأسف، والحسرة فلا إشكال أنها صفات نقص ولا تجوز على الله تعالى بحال، وما ورد في القرآن مما يوهم اتصافه تعالى بشيء منها فمجاز يُقَر حيث ورد ولا يقاس عليه نحو ?فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ? {الزخرف:55}، ?يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ? {يس:30}، قيل معنى الأولى: آسفوا أولياءنا، والأظهر أنه مبالغة في تفضيع أفعالهم وشناعتها فأطلق اللفظ مبالغة في ذلك وهجر المعنى الموضوع له في اللفظ في الأصل، ومعنى الثانية: يا حسرة إن أفعالهم تصير عليهم حسرة، والأظهر أن معناها يا حسرة هلمي وكوني على العباد تنزيلاً لها منزلة المخاطب، وهو أبلغ وأفصح في الكلام والله أعلم.
I
فصل
في الكلام في أن الله تعالى حي(1/153)


قال الهادي عليه السلام : حقيقة الحي: هو الذي يجوز منه الفعل والتدبير وذلك فهو الحي الدائم اللطيف الخبير، وقال بعض أئمتنا عليهم السلام كالمهدي عليه السلام وغيره: هو المختص بصفة لكونه عليها يصح منه أن يقدر ويعلم تلك الصفة هي كونه حياً، ويرد عليها ما ورد في قادر وعالم.
قال عليه السلام : [ فإن قيل لك: ] أيها الطالب الرشاد [ أربك حي أم لا ؟ فقل: بل ] هو [ حي تعالى ]، وهذا قول جميع المسلمين والكتابيين وكل من أقر بالصانع المختار كالبراهمة وبعض عباد الأصنام، والخلاف في ذلك مع أهل الإلحاد كما مر في مسألة قادر ومسألة عالم، والعلم بهذه المسألة على حسب ما مر في العلم بأنه تعالى قادر وعالم أن ذلك بعد العلم بالصانع المختار ضروري لا يحتاج إلى استدلال عند جمهور أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم، وعند بعضهم أن العلم بذلك استدلالي، وقد أشار الأمير عليه السلام إلى كيفية تحرير الاستدلال على ذلك بقوله [ لأنه ] قد ثبت بما مر من الكلام في الفصلين السابقين أن الله تعالى قادر عالم، والقادر العالم لا يكون إلا حياً، و [ لو لم يكن حياً لم يكن قادراً ولا عالماً ] فهذان أصلان ينبني عليهما الاستدلال على أن الله تعالى حي:
أحدهما: أنه قد مر أنه تعالى قادر عالم.
وثانيها: أن القادر العالم لا يكون إلا حياً.
أما الأصل الأول: فلا يحتاج هنا إلى تقرير، إذ قد مر الكلام في مسألتي قادر وعالم.
وأما الأصل الثاني: وهو أن القادر العالم لا يكون إلا حياً.(1/154)


فذلك معلوم ضرورة [ لأن المَيَّتَ والجماد لا يفعلان ولا يُحْدِثان صُنْعَاً ]، وبهذا الكلام تعلم صحة ما ذهب إليه جمهور أئمتنا عليهم السلام من أن العلم بهذه المسألة ونحوها من أنه تعالى قادر عالم ضروري بعد العلم بصانع العالم وأنه فاعل مختار، لأن القائلين بأن العلم بذلك استدلالي لم يجعلوا الدلالة إلا مجرد الفعل والحدوث الذي بهما علم الصانع المختار، ولأنا إذا جعلنا العلم بكون الصانع المختار حياً عالماً ضرورياً لم يمكن أهل الإلحاد المناقشة والمنازعة في كونه تعالى حياً بخلاف ما إذا جعلناه استدلالياً، فقد نازعوا في صحة ذلك الاستدلال ليتوصلوا بذلك إلى إبطال أصل المسألة في كونه تعالى حياً، وعُلمتْ طريقتنا لم يبق محال، ووجه الاعتراض على أن الفاعل المختار بعد إقامة دليله في مسألة إثبات الصانع يجب أن يكون حياً، ولا يمكن تطرق الخطأ إليه بشك ولا شبهة يلزم منها أنه ليس بحي إلا لو جوَّزنا وجود فاعل مختار ليس بحي وهو محال، وأما إذا جعلناه استدلالياً وقلنا دليل كونه تعالى حياً أنه قادر عالم والقادر العالم يجب أن يكون حياً، فقد نازع فيه أهل الإلحاد بأن قالوا: القادر العالم لا يكون في الشاهد إلا جسماً ومتحركاً ويلتذ ويشتهي ويجوز عليه الموت ونحوه من العجز والجهل، فقولوا مثله في الغائب أو فاخرجوا عن المدعى من أن القادر العالم يجب أن يكون حياً كما خَرَّجْتم عن أن يجب له سائر ما ذكر.
وقد أجاب القرشي عن هذا بما لا يظهر كونه مخلصاً قال: إن كونه حياً إنما يصحح القادرية والعالمية دون سائر ما ذكرتم.(1/155)

31 / 311
ع
En
A+
A-