ما يعلمه الله من الأمور المستقبلة
السادس: فيما يعلمه الله من الأمور المستقبلة، فإنه يعلمه أنه سيقع، وعند وقوعه يعلمه واقعاً، وبعد وقوعه يعلمه قد وقع، فاستشكل كثير من المتكلمين هل هذه الأحوال الثلاثة علوم متعاقبة متعددة في ذاتها أم علم واحد اختلفت جهة التعبير عنه ؟
مذهب جمهور أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم الثاني، وذهب قوم إلى الأول، ثم اختلفوا، فذهب جهْم وهشام بن الحكم ومن وافقهما إلى أن الله تعالى: يعلم الحالين الأخيرين وهما عند وقوعه يعلمه واقعاً، وبعد وقوعه يعلمه قد وقع دون الحال الأول، فلا يعلم ذات المعلوم ولا حاله من أنه سيقع بناءً على أصله الذي مر، ولأن تغيير العلم في حقه تعالى محال، وذهب جمهور المعتزلة وبعض الزيدية إلى أنه تعالى يعلم ذات المعلوم الذي سيقع وحاله الأول وهو أنه سيقع في الأزل، فأما حاله الثاني وهو أنه واقع، والثالث وهو أنه قد وقع فلا يثبتان له إلا بعد وجود المعلوم، ويعبرون عن ذلك بصفة مدرِك وقالوا: إنها صفة متجددة له تعالى عند وجود المدرَك قالوا: ولا يلزم من تجددها تغير العلم، وشبهتهم أنه لو علمه تعالى في الأزل واقعاً أو قد وقع لكان ذلك العلم جهلاً حيث لم يتناول المعلوم على ما هو عليه، لأنه ليس واقعاً ولا قد وقع في الأزل.(1/146)


قلنا: هو يعلمه تعالى في الأزل واقعاً في المستقبل، فالأول ظرف للعلم به لا لوقوعه حتى يلزم ما ذكرتم، ثم العلم بأنه واقع والعلم بأنه قد وقع هو العلم السابق الأزلي، وإنما اختلف التعبير عن المعلوم بأنه سيقع أو واقع أو قد وقع باختلاف الأزمنة الثلاثة، فالاختلاف إنما هو في التعبير لا في المُعَّبر عنه وهو العلم به، دليل ذلك أن العبارة تختلف باختلاف أحوال المعلوم الذي هو الفعل، ولا يمكن ادعاء اختلاف العالم لاختلاف العبارة لأنه لا قائل به، ولأنه يدور علمنا بصحة اختلاف العبارة وإيقاعها من المعبِّر بها كذلك أي مختلفة على العلم باختلاف أحوال المعلوم ثبوتاً وانتفاء، وهذا واضح فتأمل.
السابع: ما أخبر الله سبحانه بوقوعه من الأمور المستقبلة مشروطاً بفعل أو ترك، هل يصح القول بأنه تعالى عالم به أم لا يصح ؟ وكيف العبارة اللائقة بمقام الإخبار عن ذلك ؟
مثاله قوله تعالى: ?لَئِن أشركت ليحبطن عملك ?، ?لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً?، وكذلك ما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم من أن صلة الرحم زيادة في الأعمار.
ذهب جهم ومن وافقه إلى أنه تعالى لا يعلم المشروط.
قلت: ويأتي على أصله ولا الشرط.(1/147)


وذهب آخرون إلى أنه تعالى يعلم المشروط، والحق أنه إن علم تعالى أن الشرط سيحصل فهو يعلم المشروط أنه سيحصل، وإن علم أن الشرط لا يحصل أبداً فهو لا يعلم أن المشروط سيحصل وإنما يعلم أنه لا يحصل، فالأول: نحو أن يعلم الله تعالى أن زيداً سيصل رحمه فيزيده في عمره المفروض مع عدم الصلة كذا سنة فالمعلوم أنه سيزيده ذلك، فإن فرضنا أنه لا يصل رحمه فرضنا العلم السابق بأنه ما سيصل رحمه، فالمعلوم معه أنه سيميته على كمال العمر المجرد عن تلك الزيادة المشروطة بوقوع الصلة، الثاني: نحو الآيتين المذكورتين فهو تعالى يعلم عدم حصول المشروط وهو الإحباط في الأول، والتولي والامتلاء منهم رعباً في الثانية، ولا يعلم حصول تلك المشروطات بعدم علمه بحصول شروطها، وأما كيفية التعبير عند إرادة الإخبار بذلك فما علمناه يقيناً أن الله قد فعله لحصول شرطه أو سيفعله عند حصول شرطه مما دلنا على أنه لا بد منه العقل أو السمع أو نحوهما معاً، نحو الثواب والعقاب المشروطين بفعل أسبابهما من الطاعات والمعاصي وعدم تطرق المحبط والمكفِّر من المعاصي والتوبة، فيعبر عن الواقع بأن الله يعلم وقوعه،وعن المنتفي بأن الله يعلم عدم وقوعه، وقد يعبر عن المنتفي بأن الله لا يعلمه مبالغة في انتفائه فيكون مجازاً يفتقر إلى القرينة وإلى الإذن السمعي وعدم إيهام الخطأ ومنه قوله تعالى: ?وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبؤُنه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول ?، وقوله تعالى: ?قل أتنبئُون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ?، ?ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ?، وروي أن يهودياً قال لأمير المؤمنين عليه السلام : أخبرني عما لا يعلمه الله؟ وعما ليس لله ؟ وعما ليس عند الله؟، فقال عليه السلام : أما ما لا يعلمه الله فذلك قولكم يا معشر اليهود: عزير ابن الله، وأنه لا يعلم له ولداً ؛ وأما ما ليس عند الله فليس عند الله ظلم للعباد ؛ وأما ما(1/148)


ليس لله فليس لله شريك، فقال اليهودي: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والأولى التفصيل في جواز إطلاق ذلك وعدمه من المتكلم المخاطِب باعتبار حال المخاطَب، فإن كان خطابه بذلك لا يوقعه في الخطأ بتجويز الجهل عليه تعالى، وفي اتهام المخاطَب باعتقاد ذلك جاز لما فيه من المبالغة في نفي ذلك الشيء على وجه البلاغة والفصاحة التي تزيد الكلام حسناً وطرافة حتى يقع له انفعال وتأثير في نفس المخاطَب أو السامع كما في الآيات الكريمة، وإجابة أمير المؤمنين عليه السلام لذلك السائل والقرينة عقلية وورود ذلك دليل الإذن السمعي، وإن كان يوقعه في الخطأ المذكور أو يظن المتكلم نقل ذلك عنه إلى من يتهمه بذلك أو يحمله على الوجه الفاسد، فلا يجوز للقاعدة المقررة: أن ما أدى إلى القبيح فهو قبيح.
الثامن: قال القرشي وغيره من الزيدية وجمهور المعتزلة: المرجع بكون العالم عالماً شاهداً أو غائباً إلى صفة زائدة على ذات الموصوف راجعة إلى الجملة في الشاهد وإلى الحي في الغائب.
وقال أبو الحسين ومحمود: المرجع بكون العالم عالماً إلى تبين المعلوم ووضوحه للعالم شاهداً وغائباً ؛ جعل أبو الحسين ذلك التبين صفة لقلب العالم في الشاهد ومزية في حق الغائب.
وقال جمهور أئمتنا عليهم السلام على رواية الأساس وموافقوهم: إن المرجع بكون العالم عالماً إلى ثبوت ذات الباري تعالى ونفي الجهل عنه من دون ثبوت صفة زائدة على ذاته ولا حالة ولا مزية، وأما في الشاهد فمثل قول القرشي ومن وافقه: إن المرجع بكونه عالماً إلى صفة راجعة إلى جملة الحي قائمة بالحي وهي الاعتقاد الجازم المطابق.
وقالت الأشعرية وغيرهم من سائر المجبرة: المرجع بذلك إلى مثل ما قلناه في الشاهد والغائب معاً، فيجعلونها صفة معنوية شاهداً وغائباً، محدثة في الشاهد قديمة في الغائب، وسيأتي الاحتجاج للقول المختار وإبطال ما عداه بعد هذا قريباً إن شاء الله تعالى.(1/149)


التاسع: الاتصاف بكون الحي عالماً صفة مدح بكل حال سواء كان معلومه حسناً أو قبيحاً، والجهل صفة نقص لا بكل حال بل فيما إذا كان في الجهل به مفسدة كالجهل بالصانع تعالى وما يجب له من الصفات الإثباتية والنفيية التي لا يتميز عن غيره إلا بها، لأن الجهل بذلك يؤدي إلى كفر نعمته وأَمنِ نقمته وعدم القيام بطاعاته واجتناب معاصيه، وكذلك الجهل بما لا يتم ذلك إلا به كالعلم بعدله تعالى وحكمته على الجملة، والعلم بالنبوات والشرائع، وصدق الوعد والوعيد، وسائر ما جاءت به الرسل من أحوال المعاد المعلومة من الدين ضرورة، كالبعث والنشور والجنة والشفاعة ونحوها، وما يتصل بذلك مما هو كالتتمة لذلك كالعلم بوجوب الإمامة ومعرفة الإمام بعده صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أخبرنا بثبوت إمامته قطعاً كالحسنين عليهما السلام وإمام العصر بعدهما، والعلم بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وكذلك الجهل بجميع أحكام الشريعة من العبادات والمعاملات، وكذلك الجهل بما هو وصلة إلى ذلك، والأدلة كعلوم التفسير وعلوم العربية من نحو وصرف ولغة وبيان، وكذلك الجهل بما فيه منفعة الإنسان أو مضرته من أمور معيشته مما لا بد له في حياته وطيبها وسلامته منه، وما عدا ذلك مما يجهله الإنسان من العلوم لا قبح في الجهل بها ولا نقص إلا في حق العالم بذاته تعالى، وإلا لزم اتصاف الملائكة والأنبياء عليهم السلام والعلماء رحمهم الله تعالى بالقبح وصفة النقص، إذ لا يعلم كل شيء غير الله عز وجل، ولقوله تعالى مخاطباً لخاتم النبيين وغيره من المخاطبين: ?وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً?، وإنما قلنا: إن العلم حسن بكل حال، لأنه إما أن يتعلق به الحكم الشرعي على وجه ترجيح فعله على تركه لزوماً كالواجبات أو من باب الأولى كالمندوبات أو على وجه ترجيح الترك على الفعل لزوماً كالمحرمات أو من باب الأولى كالمكروهات أو على سبيل استواء حالتي الفعل والترك(1/150)

30 / 311
ع
En
A+
A-