قلنا: هو من جملة المعلومات وهو تعالى يعلم جميعها كما سبق تقرير ذلك، ولهم شبه يأخذونها من ظاهر قوله تعالى: ?ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا? {الكهف:12}، ?وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ? {البقرة:143}، ?الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا? {الأنفال:66}، ونحو ذلك من الآيات المتشابهات، ومعناها لنعلم علماً يظهر لكم صحته أو يصح تعلق التكليف بمعلومه أو بلازمه على أن المتشابه وهو ما يقدح ظاهره في التوحيد والعدل ونحوهما مما قامت الأدلة القطعية على ثبوته لا يجوز اتباع ظاهره لقوله تعالى:?فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ? {آل عمران:7}، ?وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ? {الزمر:55}، ?الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ? {الزمر:18}، وقد أخبر الله سبحانه عما سيكون في كثير من الآيات الكريمة عموماً وخصوصاً في عدة آيات كقوله تعالى: ?بكل شيء عليم ?، لكنه مبني على أن المعدوم شيء وقوله تعالى: ?وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ? {الصف:6}، صلى الله عليه وآله وسلم لأن ذلك وإن كان من أخبار عيسى عليه السلام فهو بإعلام الله تعالى له، ولأنه تعالى أخبر عن كثير من الكائنات قبل وقوعها، وهو معلوم من دين جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام قبل وجود أولئك المبتدعة.
الرابع: اختلف علماء الكلام فيما علمه تعالى من المعدومات التي ستوجد، هل علمه تعالى بها يوجب ثبوتها في الأزل وتسميتها ذواتاً وأشياء ويثبت لها حكم التماثل والتخالف في حالة عدمها أم لا؟(1/141)


فقال القاسم بن محمد عليهما السلام ورواه عن جمهور أئمتنا عليهم السلام: إن ذلك لا يوجب ثبوتها وتسميتها ذواتاً وأشياء في حالة عدمها، وقال بعض أئمتنا كالمهدي عليه السلام والبهشمية وغيرهم: بل هي ثابتة في حال العدم وتسمى ذواتاً وأشياء ليصح تعلق العلم بها ووصفها بالتماثل والتخالف وإلا لزم وجودها خبطاً واتفاقاً.
قال الأولون: لا يسلم لزوم ذلك في العالم بذاته لأن المعلومات متميزة له في حال عدمها كتمايزها في حال وجودها ولا مانع من وصفها بالتماثل والتخالف من دون أن يقال لها ثابتة في الأزل أو في حالة العدم.
قلت: وهذا هو الصحيح ومما يبطل قولهم بثبوت الذوات في الأزل أن يقال لهم: لا يخلو هذا الثبوت في الأزل إما أن يكون على سبيل الجواز أو على سبيل الوجوب، الأول باطل لأنه يلزم منه مُرجِّحاً ومُؤثِّراً أثر ثبوت الذوات وذلك يبطل الثبوت في الأزل، لأن ما احتاج مؤثراً ومرجحاً ثبت حدوثه واستحال أزله،والثاني باطل أيضاً لأن العالَم يصير معه إما واجب الوجود وإما جائزه وكلا التقديرين محال، أما الأول فلأنه يخرج العالَم عن كونه محدثاً لوجوب وجوده لأن واجب الوجود يجب أن يكون قديماً كالباري تعالى، وأما الثاني فلأنه إذا كان جائزاً أن يوجد فهو جائز أن لا يوجد أبداً، فيؤدي إلى صحة أن يكون ثابتا ً في الأزل مع كونه معدوماً أبداً، وهو خلاف مذهبهم.
فإن قيل: غاية ما فيه الثبوت في حال العدم وهو عين مذهبهم فلا يسلم بطلانه.(1/142)


قلنا: بل فيه الخلف على قود مذهبهم، لأنهم لا يقولون بثبوت الذوات بالأزل إلا في الذوات التي علم الله تعالى أنها ستوجد لا الذوات التي علم الله أنها لا توجد،ولهذا لا يقولون إن ثمة سبع سماوات وأرضين معدومة غير هذه السبع ثابتة في الأزل ولا أن ثمة ثان للقديم تعالى معدوم ثابت في الأزل، وأيضاً إذا كانت ذوات العالم ثابتة في الأزل فيقال: من أثبتها؟ إن قيل: أثبتت نفسها، فهو محال لأن الشيء لا يثبت نفسه وإلا لزم وجود نفسه قبل ثبوت ذاته لاستحالة وجود الأثر قبل وجود مؤثره، فيلزم من ذلك وجود نفسه في حال عدم ذاته، وفي ذلك الجمع بين النقضين وهو محال، ولأن فيه إبطال الثبوت في الأزل، وإن قيل: أثبتها في الأزل غيرها، ففيه مناقضة ظاهرة لأن ما أثبته غيره فليس بثابت في الأزل، بل من عند أن أثبته ذلك الغير فتأمل، وأيضاً فلا يخلو قولهم بثبوت ذوات العالم في الأزل إما أن يكون عن دليل أو لا إن لم يكن فهو باطل وإن كان فإما سمعي فليس في السمع ما يدل عليه، وإما عقلي فأما وجود العالم واختلافه فذلك دليل على حدوثه دون ثبوته في الأزل، وأما غير العالم فليس ثم شيء يشار إليه غير كون الله تعالى عالم به في حالة عدمه، وكونه عالماً به لا يحتاج إلى إثباته للزوم الحاجة ?وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ? {محمد:38}، وأيضاً العالم مختلف فثبوته في الأزل أما كذلك لزم بطلان جعل الاختلاف دليل الحدوث، وإما غير مختلف فما وجد من الاختلاف عند حدوثه غير ثابت في الأزل، وإنما الباري تعالى يعلم العالم ويعلم اختلافه قبل حدوثة ووجوده لا أنه ثابت قبل حدوثه ووجوده.(1/143)


قالوا: أوليس القيامة وأحوال المحشر وكذلك الجنة والنار عند من يقول: إنهما ما قد خلقتا ثابتة لدينا الآن فكذلك هي ثابتة عند الله بما لا ابتداء له، فلزم ثبوت الذوات في الأزل، وقالوا أيضاً: يقال: ثبت عند الحاكم أول الشهر كذا أو لا يقال: وجد عند الحاكم أول الشهر كذا، ويقال: ثبت عنده دين فلان على فلان، ولا يقال: وجد عنده دين فلان على فلان.
قلنا: ما تريدون بقولكم القيامة ونحوها ثابتة لدينا الآن؟ وما تريدون بقولكم ثبت عند الحاكم كذا؟ فإن تريدون العلم بذلك فلا تناكر ولا يلزم منه المدعى الذي هو محل النزاع وهو ثبوت الذوات في حالة العدم، وإن تريدون ما هو المفهوم من لفظ الثبوت وهو الوجود فنسبته إلى الآن في القيامة ونحوها باطل اتفاقاً وإلى الأزل بالأولى، فيجب تأويله بأن المراد ثبت لدينا العلم بالقيامة وأحوال المحشر والجنة والنار، وثبت العلم عند الحاكم بأول الشهر ونحوه وهو بمعنى واحد العلم بذلك، فلا فرق بين الثبوت والوجود، فلم يصح القول بثبوت الذوات في العدم أو في الأزل سيما إذا قيل العالم ثابت في الأزل ففيه من الخطأ إيهام وجوده في الأزل، وإن كانوا لا يقولون بذلك وحاشاهم لكن الإرادة لا تدفع الإيراد.(1/144)


ما علم الله أنه سيقع من أفعاله أو أفعال غيره
الخامس: أن ما علم الله سبحانه أنه سيقع من أفعاله أو أفعال غيره، فالعلم بذلك لا أثر له في تحصيل المعلوم وإخراجه من حيز العدم إلى حيز الوجود، وإلا لكان الفاعل غير الله وغير العبد وهو العلم سيما على قول من يجعل الصفات أموراً زائدة على الذات كالأشاعرة وغيرهم من أهل المعاني، وكالمعتزلة ونحوهم ممن يقول بالأحوال والمزايا والأمور الزائدة شاهداً وغائباً، لأن خاصية العلم هي مجرد وضوح المعلوم للعالِم وعدم خفائه عليه سواء كان من فعله أو فعل غيره والدراية بكيفية فعل محكم فيما كان من فعله، فأما وجود الفعل وإخراجه من العدم إلى الوجود فذلك من خاصية الفاعل لا من خاصية العَالَم، فالعلم بأنه سيوجد لا يوجب وجوده.
قال المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام : وإلا لزم أن الله تعالى مجبور على فعله تعالى الله عن ذلك، انتهى كلامه عليه السلام .
يزيده وضوحاً أنا لو جعلنا حصول ما علم الله أنه سيوجد واجب الحصول وحصول ما علم سبحانه أنه لا يوجد من الممكنات في ذاتها مستحيل الحصول، لخرج الباري تعالى عن كونه قادراً لانقسام الأشياء بين واجب الحصول فلا قادرية له تعالى على تركه، ومستحيل الحصول فلا قادرية له تعالى على فعله، فعُلِم بذلك أن حصول الفعل وعدمه لا أثر فيه لجهة العالمية إذ لا تأثير لها إلا في وضوح الأشياء وكيفية إحكامها، ولا لجهة القادرية إذ لا أثر لها إلا التمكن من الفعل والترك معاً، وإنما الأثر في حصوله لجهة الفاعلية، فلم يلزم حينئذ جهل ولا جبر ولا عجز في جانبي الفعل والترك لا في أفعاله تعالى ولا في أفعال عبيده التي يقدرون عليها، فتأمل ذلك فهو بحث نفيس مفيد في خروج الإشكالات والمحالات التي ترد على مسألتي قادر وعالم، وعلى أن العبد فاعل لأفعاله التي مكنه الله منها.(1/145)

29 / 311
ع
En
A+
A-