أما الأصل الأول: فهو معلوم لأن كل عاقل يعلم بعلوم العقل العشرة التي مرَّ تعدادها في صدر الكتاب ويعلمها بلا استدلال لما كانت حاصلة فيه بخلقه تعالى لها، وكذلك يعلم العلوم الاستدلالية التي قد أوصله نظره فيها إلى العلم بتمكينه تعالى من ذلك، فثبت الأصل الأول.
وأما الأصل الثاني: وهو أنه يلزم من ذلك أن يكون تعالى عالماً فهو معلوم أيضاً، إذ لا يمكن أن يُوجِد العلم لغيره إلا من كان عالماً، ولهذا استحال على المجانين والصبيان تعليم غيرهم لفقد العالمية لديهم، وهذا واضح كما ترى، فتقرر بجميع ما سلف أن الله تعالى عالم، وسواء قلنا: إن العلم بذلك بعد العلم بإثبات الصانع تعالى ضروري كما هو المختار، أم استدلالي كما هو رأي بعض علمائنا رحمهم الله تعالى، وبقي الكلام فيما يتصل بهذه المسألة من الأبحاث والفروع، وقد أشار الأمير عليه السلام إلى بعض منها، وسنشير إن شاء الله إلى باقيها:(1/136)
الأول: إن الله تعالى يعلم جميع المعلومات، وقد ذكره عليه السلام بقوله [ وهو تعالى لا يختص بمعلوم دون معلوم ] لأنه تعالى عالم لذاته ولا اختصاص لذاته بمعلوم دون معلوم [ فيجب أن يعلم جميع المعلومات ] كبيرها وصغيرها ودقيقها وجليلها وموجودها ومعدومها، أما على قول جمهور أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم من: أن صفات الله تعالى لأجل ذاته، فلا إشكال، وأما على قول أبي علي ومن وافقه من: أن الصفات مقتضاة عن ذاته، فكذلك لأن خروج المقتضي عن المقتضى لا يجوز كخروج الجسم عن التحيز، فإن ذلك لا يصح بحال، وأما على قول أبي هاشم ومن وافقه: أنها مقتضاة من الصفة الأخص وهي مقتضاة عن الذات، فكذلك أيضاً فلا يصح على أقوال الجميع اختصاص ذاته تعالى بمعلوم دون معلوم، وأما على قول المجبرة من: أنه تعالى يتصف بصفاته تعالى من كونه قادراً وعالماً ونحوهما لأجل المعاني القائمة بذاته فلا يتأتى لهم تعميم الدليل في كل المعلومات لأن المعنى يصح أن يفارق ما قام به فيخرج عن كونه تعالى عالماً، لأن ذلك المعنى ليس واجباً عندهم لأجل الذات حتى يستحيل خروج الذات عنه، لأنه لو صح عندهم أن يكون للذات لكان يصح أن يقولوا: إن الصفات للذات فيستريحوا عن التكلف لإثبات المعنى، ولأنه لا يصح تعميم تعلق المعنى بجميع المعلومات إذ شان المعنى صحة تعلقه بشيء، دون شيء فيصح على ذلك أن يكون تعالى عالماً بمعلوم دون معلوم، فتأمل ما في قولهم من الزلل والخلل فهو تعالى يعلم كل المعومات على كل حال و [ على كل الوجوه التي يصح أن تعلم عليها ]، بمعنى أن ما علمه سبحانه وتعالى فهو الواقع على حسب ما علمه فيستحيل أن ينكشف خلافه، لأن العلم بالشيء لا على ما هو عليه في نفسه ليس بعلم، بل جهل مركب وذلك محال في حقه تعالى، لأن ذلك نوع من الاعتقادات الفاسدة والأعراض الحادثة وصفة نقص لا تجوز إلا على المحدثات [ فهو سبحانه ] وتعالى عالم في علمه بالأشياء جميعهاً، كذلك [(1/137)
يعلم ] كل [ ما أجن عليه الليل، وأضاء عليه النهار ] لا يخفى عليه شيء في بطن برٍ أو ظهره ولا في وجه بحر أو قعره، لأن ذلك كله فعله وصنعه فهو عالم به، ولأنه كما سبق عالم بذاته فيعلم جميع أفعاله وجميع أفعال عباده لا وجه لتخصيص عالميته بشيء دون شيء، وأجنه الليل: أي ستره، مأخوذ من الجُنَّة وهي الساترة، ومنه الجن لما كانوا مستورين، والجنة للبستان الذي سترت أشجاره عرصته [ ويعلم عدد قطر الأمطار و ] عدد قطر [ البحار ] وهذا من عطف الخاص على العام، لأن ذلك قد دخل في قوله: ما أجن عليه الليل وأضاء عليه النهار، وكذلك قوله، [ ويعلم السر - وهو ما بين اثنين - و ] يعلم [ ما هو أخفى ] من السر [ ـ وهو ] ما يحدث في النفوس من الوسوسة والعزم ونحوهما من [ ما لم يخرج بين شفتين - ] وهذا قول أكثر المفسرين في معنى السر وما هو أخفى، وقال الهادي عليه السلام وتبعه الإمام القاسم في الأساس عليه السلام : السر ما انطوت عليه الضمائر كأنهما يجعلا ما بين اثنين من قبيل النجوى وهو التناجي - أي التخاطب - سواء كان بين اثنين أو أكثر، لكن ينظر على كلامهما عليهما السلام في تفسير ما هو أخفى، ويمكن أن يفسراه بمجرد ما يخطر من الحدس والخيال من دون أن يصحبه عزم وتصميم وإرادة واعتقاد ونحو ذلك من أفعال القلوب، لأن الأول من أفعال القلوب غير مؤاخذ به ولا تعلق له بالإنسان وجوداً ولا انتفاء وعليه الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تهم أو تعزم" وقوله تعالى: ?وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ? {الأحزاب:5}.
واحتج الإمامان عليهما السلام بقوله تعالى: ?فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ? {يوسف:77}، وحجة الأولين قوله تعالى: ?وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ? {الأنبياء:3}.(1/138)
قلت: الأظهر والله أعلم أن السر بمقابل الجهر سوى كان الإسرار اثنين أو أكثر أو أقل، ومنه الصلاة السرية وسواء بلغ به الإسرار إلى أن لا يخرج من بين الشفتين بل انطوى عليه القلب والضمائر كما قاله الإمامان عليهما السلام، أم كما بين الاثنين من المخافتة كما ذكره الأمير عليه السلام وجمهور المفسرين أو أكثر كما تدل عليه الآية: ?وَأَسَرُّوا النَّجْوَى?، والمبحث لغوي فليراجع به كتب اللغة، ولا مشاححة في مثل ذلك تقدح في العقائد والله أعلم.
الثاني: قال الهادي والقاسم والمرتضى عليهم السلام والبلخي وقواه شيخنا رحمه الله تعالى وغيرهم: إنه يجوز أن يقال: إن الله تعالى بكل مكان ومع كل إنسان بمعنى حافظ مدبر بالقيد المذكور، وقال الإمام المهدي عليه السلام والجمهور: لا يجوز ولو بالقيد لأن ذلك يوهم التجسيم واستعماله فيما ذكر مجاز والمجاز لا يجوز إلا بإذن سمعي ولم يرد السمع بلفظه، وإنما جاء بمعناه وهو قوله تعالى: [ ?مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا? ] {المجادلة:7}، وقوله تعالى: ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى? {طه:46}، وقوله تعالى: ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ? {الحديد:4}.
قال الأولون: ولا نسلم اشتراط لفظه الخاص، قال شيخنا رحمه الله تعالى ما لفظه: قلت: بل جاء بالسنة بلفظه، وفي كلام المعصوم عليه السلام : وإنه لَبِكُلِّ مكان ومع كل إنس وجان، قال: وفي الآحادي المتلقى بالقبول لفظه انتهى كلامه والمسك ختامه.
قلت: ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام عن علي عليه السلام : قال موسى: يا رب أقريب فأناجيك أم بعيد فأناديك قال: يا موسى إني جليس من ذكرني.(1/139)
وأخرج القاضي عن عبادة قال صلى الله عليه وآله وسلم: " إن من أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان ".
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : لا يخلو منه مكان ولا يتبدل عنده زمان إلى غير ذلك، وأشار المؤلف عليه السلام إلى معنى الآية المذكورة ونحوها مما ذكر وقوله تعالى:?وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ? {الأعراف:7}، ? وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ? {إبراهيم:42}، إنما ذلك تمثيل لعلمه تعالى وتدبيره واقتداره بقوله: [ بعلمه لا يلاصقهم وهو ساخط عنهم ولا يفارقهم ]، لعل أن في ذلك تقديم وتأخير من جهة أحد النسخ وأن الأصل لا يلاصقهم ولا يفارقهم وهو ساخط عنهم يعني أنهم في حال أن يعملوا ما يسخطه تعالى من المعاصي لا يكون ذلك سبباً لمفارقتهم، وكذلك العكس وهو ما إذا عملوا ما يرضيه من الطاعات لا يكون سبباً لملاصقتهم لأن الملاصقة والمفارقة من صفات الأجسام المحدثة وهو متنزه عن ذلك، وإنما لم يقل وهو راض عنهم استغناء واستكفاء بما ذكر في الثاني من قوله: وهو ساخط عنهم، إيثاراً للاختصار واستعمالاً للحذف الذي هو أحد أنواع البديع ومنه قوله تعالى: ?سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ? {النحل:81}، ولم يذكر البرد لأن ما وقى من الحر وقى من البرد، فآثر الاختصار والحذف اتكالا على فهم المخاطب ليكسب الكلام بلاغة وفصاحة وحسناً والله أعلم.
الثالث: أن الله تعالى يعلم الأشياء المعدومة التي ستوجد قبل وجودها كما يعلم الأشياء الموجودة، وحكي الخلاف في ذلك عن جهم بن صفوان وهشام بن الحكم فقالا: لا يعلم الله الشيء إلا عند وجوده، وهؤلاء ومن وافقهم الذين يقولون: إن الأمر أُنُف يعني لم يتعلق به علم سابق إنما هو كالمستأنف العلم به حال وجوده.(1/140)