فصل في الكلام في أن الله تعالى عالِم
حقيقة العالِم: هو من يمكنه إحكام الأشياء المتباينة وتمييز كل منها بما يميز به أو من أدرك الأشياء إدراك تمييز وإن لم يقدر على فعل محكم.
وقيل: هو المختص بصفة لكونه عليها يصح منه إيجاد الفعل المحكم، تلك الصفة هي كونه عالماً ويرد عليه ما ورد في قادر.
قال عليه السلام [ فإن قيل: ] لك أيها الطالب الرشاد [ أربك عالم أم غير عالم؟ فقل: بل هو عالم ]، وهذا مذهب كل من أقر بالصانع المختار وهم جميع أهل الإسلام والكتابيين والبراهمة وكثير من عباد الأصنام، والخلاف في ذلك مع الباطنية فقالوا: لا يوصف بأنه عالم لأنه تشبيه، ولا بأنه غير عالم لأنه تعطيل. وأُلزِمت المطرفية: أن لا يكون قادراً لتجويزهم الفعل المحكم من غير العالم حسبما مر في مسألة قادر، وأما الفلاسفة فلا معنى لحكاية الخلاف عنهم مع قولهم: إنه علة مؤثرة بالإيجاب لا بالاختيار، لكن حكى عنهم القرشي رحمه الله تعالى القول بأنه عالم بنفسه فقط ولعلمه بنفسه صدر عنه العقل الأول فقط، وهذه حكاية عن أوائلهم، وحكي عن أواخرهم كابن سيناء وابن الراوندي والفارابي: أنه يعلم مع ذاته العلوم الكلية لا الجزئية، ومثلوا ذلك بالكسوف فإن له ثلاث حالات: حالة عدم قبل وجوده، وحالة وجود بعد عدمه، وحالة عدم بعد وجوده، قالوا: فلا يعلم هذه الأحوال وإنما يعلم علماً كلياً، وهو أنها إذا تواسطت الأرض بين الشمس والقمر كسفت القمر لأن نور القمر مكتسب من نور الشمس، فأما أن يعلم أنه لم ينكسف وهو الحال الأول أو مكسف وهو الحال الثاني أو قد كسف وهو الحال الثالث، فلا يعلم شيئاً من هذه الأحوال تعالى الله من ذلك علواً كبيراً.(1/131)


نعم وقد عرفت بما مر أن العلم بالفعل المحكم لا يصح إلا من عالم ضروري لا يحتاج إلى الاستدلال بل قد أغنى عنه الاستدلال على إثبات الصانع المختار، لكن لا بأس بتحرير الكلام في ذلك لما يتعلق به من الفوائد، ولأن المؤلف عليه السلام من أهل القول الثاني فلذا قال: [ وبرهان ذلك ] البرهان: هو الدليل قال شيخنا رحمه الله تعالى: من قولهم بره الرجل إذا جاء ببرهانه، والبَرَهُ في الأصل البياض، وأمره برهة بيضاء كما أن السلطان بمعنى الحجة من السليط لإنارته والإشارة إلى كونه تعالى عالم [ ما نشاهده ] قصر الاستدلال على ما نشاهده لعلمنا به بضرورة المشاهدة، وإلا فالدليل يتناول ما غاب عن أبصارنا كما يتناول ما حضرها [ في ] جميع [ ما خلقه من بدائع الحكمة ] يحتمل أن يراد بالحكمة الفعل الحسن الذي لفاعله فيه مقصد صحيح فيخرج العبث والسفه، ويحتمل أن يراد بها الإحكام وهو الإتقان للشيء بحسب ما هو عليه، فلا يدخله التخليط المفضي إلى الالتباس والاضطراب وعدم التناسب، وكلا المعنيين مستقيم، وإن قصد الجميع فأبدع وأبلغ [ وغرائب الصَّنْعَة ] أي الخلقة، وقد قيل: بمنع أجراء ذلك على الله تعالى لإيهامها الاحتراف وليس بوجه وقد قال تعالى: ?صنع الله الذي أتقن كل شيء ?، [ فإن فيها من الإحكام ] وهو إيجاد الفعل والأفعال المتقارنة أو المتعاقبة على وجه لا يتأتى من كل قادر ابتداء، [ والترتيب ] وصنع كل شيء في مرتبته [ ما يعجز عن وصفه الفطن ] أي سريع الفهم والتيقظ للأشياء اللازمة وفهم عدم لزوم ما لا يلزم منها، والأوصاف الخافية من أوصافها اللبيب: أي ذو اللبّ وهو العقل الكامل قال تعالى: ?واتقوا الله يا أولي الألباب ?، وهذا أمر واضح أعني أن في أفعاله تعالى ومخلوقاته من الإحكام والترتيب ما يعجز عن وصفه الواصفون، وينحسر عن الإحاطة بشرحه العارفون نحو خلق الإنسان وتركيبه بعد أن كان أصله تراباً ونسله نطفة من ماء مهين فجعله في قرار مكين وهي(1/132)


الرحم، فكان أصله بصفة واحدة غير مختلف الأجزاء، ثم صار لحماً، وعظماً، ودماً، وعصباً، وعروقاً، وشعراً، وبشراً، فاللحم ليستر العظام ويغذِّيها وتصونها من الانكسار عند المصادمة، والعظم لإقامة البدن كالأساطين، وجعل في كل محل على قدر الاحتياج واللزوم في الصغر والكبر والامتداد والدقة والغلظ، وجعل ذا مفاصل عديدة لئلا يبطل الانتفاع لو كان عظماً واحداً، وجعل فيه مفصلين عامين لعرضه أحدهما في الحقو ينعطف حمله ما فوقه من البدن جهة الأمام والآخر بالعكس وهو مفصل الركبتين ينعطف حمله ما فوق جهة الخلف ليمكن الجلوس والقيام ونحوهما كالركوع والسجود، ولو كان انعطاف المفصلين إلى جهة واحدة لما أمكن ذلك ولتعذر الانتصاب والاعتدال، وجعل في المحلات التي لا تحتمل العظام ولا يقوم بها اللحم الغضاريف: وهو جنس دون العظم وفوقه اللحم والعصب في الشدة كما في الأذنين والمارن وأطراف اللوحين، والدم غذاءً سارياً في البدن لاستمرار حياته، والعصب كالحبال لربط الأعضاء بعضها إلى بعض وجعلت متينة لينة المتانة لئلا تنقطع، والليانة لئلا تبطل الحركة، وجعلت العروق كالأنهار إلى كل محل من البدن لتجري فيها الأغذية من محل الطعام والشراب إلى كل محل من البدن بقدر الاحتياج، وجعل الجلد من خارج الجملة بشراً متصلاً على مقدار في الغلظ والرهف كل محل بما يناسبه، ففي باطن القدمين والراحتين هو أغلظ منه في سائر البدن وفي سائر البدن، متوسط بين وبين كل محل بحسبه في الحاجة والمصلحة، وجعل الشعر من خارجه كالزينة في مواضع مخصوصة من البدن كاللحية والرأس، وما كان لا زينة فيه كشعر الإبط والعانة أباح لهم إزالته وحلقه ليتعبدهم بإزالته فكان إيجاده أولى من عدمه بالكلية، ثم لما كان الرأس أشرف البدن جعل في أعلاه وأودع فيه الجمال الداعي إلى ملاءمة الطباع وعدم التنافر والتواحش، وجعل الحواس الخمس قائمة به لكل حاسة جارحة مخصوصة ليستعمل الإنسان تلك الجارحة(1/133)


بخصوصيتها عند عروض المدرك بها كالعينين للبصر والأذنين للسمع، والمنخرين للشم، واللسان للطعم، إلا الحاسة الخامسة وهي حاسة اللمس وجعلت سارية منسحبة في جميع البدن لأن من مدركها ما هو مضرة على البدن كشدة الحر والبرد ولدغ الأفاعي ونحوها، وما هو منفعة للبدن كملامسة المشتهيات التي ينعم البدن بها كالأدفية وذات النعومة في الملامسة فيشعر الإنسان بإدراك المضر فيبادر إلى التوقي منه لئلا يهلك، وبإدراك المنافع فيميل إليه بحسب الحاجة والرغوب فيه، فجعل في الكفين مزيد إدراك على سائر البدن من الإحساس للملامس ليتمكن من جس ما يجس مما يخفى على سائر البدن وسائر الحواس ويكون الوقوف على كنهه وكميته، ثم جعلت الحواس الخمس مؤدية إلى القلب ومبلغة إليه ما أدركته، فما أدركته أي حاسة من تلك الحواس أدرك العقل القائم بالقلب فيحكم فيه بما يلزم ويحسن من مقاربة المصلحة وتجنب المفسدة، واللسان تعبر عما يحتاج إلى التعبير من اجتلاب المصالح وتجنب المفاسد مما يتعلق بالغير قالوا: فكان العقل كالملك الحاكم، والحواس كالخدم الحافين المبلغين ما يلزم، واللسان كالترجمان لما يأمر به الملك من الحقوق اللازمة لهذا البدن فعلاً أو تركاً والحقوق الثابتة عليه لخالقه كذلك فعلاً أو تركاً والحقوق اللازمة عليه لسائر المخلوقات المماثلة له في الإنسانية أو المخالفة فيها كسائر أصناف الحيوانات كلاً بما يليق به ويصلح في حقه فعلاً أو تركاً، ويحكم العقل بوجوب امتثال ما أمر به الخالق سواء أدرك العقل حسنه أو لا لكونه يعلم أن الخالق ملك ليس فوقه مالك له ولغيره، فحكم بلزوم امتثال جميع أوامره ونواهيه، فدخل في ذلك جميع الواجبات والمحظورات العقلية والشرعية فسبحان من أتقن كل شيء حكمة وصنعا، وأحاط بكل شيء علماً وبدعا.(1/134)


قال عليه السلام : [ وكل ذلك لا يصح إلا من عالم ] ضرورة [ كما أن الكتابة المحكمة لا تصح إلا من عالم بها ] ضرورة للعلم بأنه يتعذر على الجاهل الصِّرْف نقط المصحف على وجه الإتقان والإحكام، وكذلك الأعمى يتعذر منه ذلك لعدم العلم بكيفية ذلك وكيفية الحروف ووضع كل حرف ونقطة في محلها، وهذا ظاهر لا مرية فيه.
فإن قيل: هذا من باب قياس الغائب على الشاهد الذي يسميه الفلاسفة وغيرهم قياس التمثيل وهو عندهم لا يفيد العلم، فلا يحجهم هذا.
قلنا: لا نسلم أنه من باب القياس، وإنما هو من باب إلحاق الآحاد بالجملة، لأنا نقول كل من صح منه الفعل المحكم فهو عالم، وهذه جملة ضرورية وقاعدة كلية يدخل تحتها جميع الأفعال المحكمة بالحكم عليها أنها لا تصح إلا من عالم، كما إذا قيل الخمر حرام فإنه يدخل تحت هذه القاعدة الكلية ما إذا كان خمرٌ بحضرتنا مشار إليه من حيث إلحاق الأفراد بالجملة لا من حيث القياس، وإنما ذلك من أهل الإلحاد توصل إلى المغالطة ونقض الأدلة بما لا صحة له، ولَئِن سلمنا فرضاً أن هذا من باب القياس فهو قياس قطعي، والقياس القطعي يفيد العلم قطعاً وهو ما إذا علمت العلة في الأصل والفرع قطعاً على سواء، وعلم التعليل بها في الأصل قطعاً ولا فارق بينهما، فإنها تنتج الحكم في الفرع قطعاً.
دليل آخر للقائلين بأن العلم بذلك استدلالي: وهو أن الله تعالى قد خلق فينا العلوم الضرورية بخلقها فينا ضرورة، ومكننا من العلوم الاستدلالية بما ركب من المشاهدات من الدلائل الموصلة لنا إلى العلوم الاستدلالية فلا بد أن يكون عالماً، وهذا الدليل مبني على أصلي ن: أحدهما: أنه قد خلق فينا العلوم الضرورية ومكننا من العلوم الاستدلالية. الثاني: أنه يلزم من ذلك أن يكون تعالى عالماً.(1/135)

27 / 311
ع
En
A+
A-