قلنا: أما موجود فلأنه لما كان القرآن مملوء من نحو خلق السماوات والأرض، خلقكم ثم رزقكم، يميتكم ثم يحييكم، ومن نحو القادر، العالم، الحي، فكان الإخبار مع ذلك بأنه تعالى موجود كالإخبار بأن السماء فوقنا والأرض تحتنا، وأن العشرة زوج ونحو ذلك من الأمور المعلومة ضرورة، فالخبر بذلك مستهجن لا يرد في الكلام الفصيح البليغ، فلو ورد لجعله أهل الزيغ ذريعة إلى القدح في كلام الحكيم فأحال سبحانه العلم بذلك إلى ما تدركه العقول عند سماع تلك الألفاظ الواردة ونحوها مما ذكر في القرآن، وما تدركه عند التفكر في صنعه تعالى حيث تعلم بالتفكر أنه تعالى قادر عالم، فتعلم معه ضرورة أنه تعالى موجود ألا ترى إلى قوله تعالى: ?اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا? {الطلاق:12}، لو قال بعد ذلك وتعلمون أنه موجود، لكسب الكلام ضعفاً وسماجة تذهب بفصاحة الآية من أولها وتنقض بلاغتها من موصلها، وأما قديم فقد أورد ما في معناه فأغنى عن ذكره، ولأنه قد يطلق في اللغة على ما تقادم وجوده بعد أن كان معدوماً كقوله تعالى: ?حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ? {يس:39}، فلو ورد بهذا اللفظ لكان لأهل الزيغ مجال في الطعن على القرآن، وإن أريد به المعنى الصحيح فاستغنى بما في معناه وهو الأول وقرن بالآخر ليدل على أنه لا يصح عليه العدم فيلزم وصفه تعالى بالقدم، وإن أريد بالسمع غير المتواتر لزم جواز إطلاق كلما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولعل فيه ما لم تصح روايته وذلك خطر لقوله تعالى: ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ ? إلى قوله: ?وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ? {الأعراف:33}، وأما المجاز فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى إلا بإذن(1/126)
سمعي، فإن أوهم الخطأ أقر حيث ورد ولا يقاس عليه غيره، ولا يشتق له اسم مما ورد بصيغة الفعل نحو:?وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ? {الأنفال:30}،? الله يستهزأ بهم?، فلا يقال له تعالى ماكرٌ ومستهزِئٌ ونحو ذلك، إذا عرفت ذلك فالذي يجري على الله تعالى من الأسماء بمعنى كونه قادراً: القدير والمقتدر والقوي والمقيت، وقيل: إن معنى المقيت خالق الأقوات فيكون صفة فعل لا صفة ذات، إذ يصير بمعنى فاعل لا بمعنى قادر، والأظهر هو الأول وهو أنه بمعنى قادر على خلق الأقوات، والقاهر والغالب والظاهر والملك والمليك والمالك عند القاسِمَين والمهدي والشيخين وقال غيرهم قال شيخنا رحمه الله تعالى: وهو صريح قول علي عليه السلام صفة فعل لا تفيد الثبوت في الأزل.
قلت: قد مر ما يفيد أن المالك بمعنى كون المملوك له، وأما الملك والمليك فهما مبالغة في مالك فلا فرق بينهما، لكن لا مانع من دلالة الثلاثة على معنى قادر بالالتزام لا بالمطابقة كما مر.
والرب: عند القاسمين والمهدي عليهم السلام وقال البلخي: صفة فعل من التربية، واختاره سيد المحققين.
والسيد والمولى والصمد والعزيز والكريم، قال شيخنا رحمه الله تعالى: والصحيح أن الكريم صفة فعل.
قلت: الأظهر، والله أعلم أن هذه الأسماء الشريفة الخمسة كلها إنما تدل على قادر باللزوم لا بأصل الوضع فمعانيها مختلفة كما ترى، لكنه إذا وصف بها فهو قادر على فعل لازمها وهو التصرف التام والتعزز والإكرام، والجبار وذو العزة وذو الجبروت وذو الملكوت والكبير والعظيم والجليل، وقيل: هذه الثلاثة تفيد في حقه تعالى جميع صفات الإلهية، والمتكبر بمعنى الكبير، وقيل: ولولا السمع لما جاز عليه تعالى لأنه يفيد نوعاً من التكلف.(1/127)
قلت: والعزيز إذا كان من التعزز، ففيه إيهام التكلف فالأحسن أن يقال: إنهما وإن كانا يوهمان ذلك، فهذا المعنى منتف في حقه تعالى لما علم من اقتداره تعالى على كل شيء بلا تكلف، وإنما وردا ليدلا على لازمهما وهو امتناع اهتضامه تعالى ونفاذ أمر قادر عليه سبحانه وتعالى فالعزيز مأخوذ من قولهم أرض عزاز إذا امتنع تفريقها، وهذا إذا جعلنا العزيز صفة ذات، وأما إذا جعلناه بمعنى معز أوليائه كحكيم بمعنى محكم فهو صفة فعل، والكبير والمتكبر مأخوذان من التكبر وهو التعظم، وإنما قبح ذلك في الشاهد لأنها دعوى يكذبها الواقع من ضعف البشر بخلاف الباري تعالى فالواقع يصدقها، والعلي والأعلى والعالي والمتعالي وهذه الأربعة تطلق عليه تعالى لإفادة تنزهه تعالى وتقدسه عن الرذائل وصفات النقص، فيدخل تنزيهه تعالى عن العجز ووصفه بأنه تعالى قادر ضمناً، ولا يجوز إطلاقها عليه تعالى بمعنى الارتفاع في الجهة والمكان لإيهام الجسمية، وكذلك العظيم والكبير والجليل لا يجوز إطلاقها عليه تعالى بمقابل ما يضاددها في اللغة وهو حقر الجسم وصغر السن لإيهام التجسيم والحدوث، وإنما المراد بها وصفه تعالى بالكمال والعظمة والجلال، فلا يغالبه مغالب ولا يعجزه شاهد ولا غائب، قال القرشي رحمه الله تعالى: ومنها الجبار وهو أبلغ من العزيز مأخوذ من قولهم نخلة جبارة إذا فاتت اليد وامتنعت من أن تُنال، وقيل: مأخوذ من الجبر وهو الإصلاح فيكون من صفات الأفعال، قال شيخنا رحمه الله تعالى: ولا يجوز أن يطلق عليه متجبر بمعنى جبار.(1/128)
قلت: لأن معناه السابق إلى الفهم المتغلب بما لا ينبغي فيوهم القدح في عدله وحكمته، فأما لو قصد به ما قصد بمعنى متكبر فلعله لا مانع والله أعلم، إلا أن يفرق بينهما بأن السابق إلى الفهم من متجبر هو ما ذكر ولا يصير بمعنى متكبر إلا بنقل واستعمال آخر، فيكون مجازاً ويحتاج إلى القرينة استقام، ولهذا لم يرد في السمع في أسمائه الله تعالى الحسنى مع كثرتها وهذا هو الظاهر والله أعلم.
قال القرشي رحمه الله تعالى: ومنها الإله معناه القادر على أصول النعم التي لأجلها تحق له العبادة.
قلت: الأظهر أن الإله يفيد وصفه تعالى بجميع صفات الكمال من أنه قادر على كل المقدورات عالم بكل المعلومات حي دائم لم يزل ولا يصح خروجه عن ذلك بحال من الأحوال، فهو أعم من قادر فيدل عليه بالتضمن لا بالمطابقة / قال رحمه الله تعالى: قيل: ولهذا يعني كونه بمعنى القادر على أصول النعم لا يوصف بأنه إله إلا لمن تصح عليه النعم كالأحياء، فلا يقال: إنه إله الجمادات والأعراض، فيحمل قولهم إله السماوات والأرض على حذف المضاف تقديره إله أهل السماوات والأرض وهذا غير واضح، قال: ومثله قولنا: الله يعني أنه بمعنى القادر، وقد مر أنه اسم لله تعالى بإزاء صفات الكمال المذكورة في الإله، فالأظهر أن لا فرق بينهما، بل قيل: إنهما اسم واحد، وإنما حذفت همزة الإله وأدغم أحد اللامين في الآخر.
قال: ومنها المستولي والمستطيع في قوله تعالى: ?هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ? {المائدة:112}.(1/129)
قلت: أما المستولي والمستطيع فلم يرد في السمع بلفظهما بل أخذ الأول من قوله تعالى:?اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? {السجدة:4}، حيث قالوا: إن الاستواء في اللغة بمعنى الاستيلاء، والثاني من حكايته تعالى عن حواري عيسى عليه السلام ?هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ? {المائدة:112}، فرد عليهم بقوله: ? اتَّقُوا اللَّهَ?، ففي المأخذين نظر، ولكن لا مانع من الأول دون الثاني لإيهام الخطأ كالمقوي والمطيق والله أعلم.
ويمتنع أن يطلق عليه تعالى الرفيع والشريف ويقر حيث ورد نحو رفيع الدرجات،والمطيق والمطلق والمخلي والشديد إلا مضافاً نحو شديد العقاب وهو صفة فعل، وكذا متين لأنهما يفيدان الصلابة ويقر حيث ورد نحو ذي القوة المتين.(1/130)