السابع: زعم القرشي صاحب المنهاج من أصحابنا وغيره من الزيدية والمعتزلة: أن للقادر لكونه قادراً حالاً به فارق العاجز وسووا في ذلك بين الباري تعالى وغيره من سائر القادرين قالوا: والمرجع بذلك الحال إلى صفة يختص بها القادر، وقال أبو الحسين: المرجع بذلك إلى مزية يمتاز بها الباري تعالى عن غيره وإلى صحة البنية وتناسب الأعضاء والطبائع فيمن عداه تعالى، والجمهور قالوا بمثل قول القرشي في الشاهد، فإن معنى كونه قادراً أن به صفة يختص بها وهي القدرة المحدثة القائمة بذات زيد حين أن حاول حملاً ثقيلاً فحمله الخالية عن عمرو حين أن حاول ذلك الحمل فتعذر عليه، وليست نفس صحة البنية وتناسب الأعضاء والطبائع كما يقول أبو الحسين، بل أمر وجودي خلاف ذلك قد يكون معه وقد لا كما في كثير من أهل الرفاهية يعجز عما يفعله غيره مع حصول ما ذكر، وأما الباري تعالى فهو قادر بذاته لا لأجل حال ولا لمزية بل ذاته عز وجل متمكنة من كل شيء بمجردها لا لما ذكر ولا لغيره.
وقالت المجبرة: بل القادر شاهداً وغائباً لا يكون قادراً إلا بقدرة هي معنى قائمة به كما ذكرناه في الشاهد، ولكنها في الباري تعالى قديمة قائمة بذاته تعالى لا على وجه الحلول.
وهذا هو الزيغ الشديد والضلال البعيد للزوم قيام المعاني بذاته إثبات قديم سواه، وسيأتي تقرير القول المختار وإبطال جميع ما عداه في آخر الكلام على صفات الإثبات.(1/121)


بيان أجناس المقدورات وأنواعها وتعدادها
الثامن: في بيان أجناس المقدورات وأنواعها وتعدادها.
أما بيانها وتعدادها: فهي ثلاثة وعشرون جنساً: الأجسام والألوان، والروائح، والطعوم، والحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والحياة، والشهوة، والنفرة، والفناء والقدرة فهذه ثلاثة عشر لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وخالف قوم في بعض الألوان والحرارة، فادعوا قدرة للعبد على ذلك كتبييض الناظف عند الضرب، وتسويد الحبر عند خلط العَفْص والزاج، ووجود الحرارة عند حك إحدى الراحتين بالأخرى.
فقالوا: إن ذلك متولد من فعل العبد والمتولد من فعل مفعول لفاعل ذلك الفعل.
قلنا: لا نسلم، بل يحدثه الله تعالى عندما ذكر لمصالح عباده وهذا الجواب أولى من الجواب الذي في القلائد إن ذلك لَوْنٌ كان كامناً فبرز لما فيه من مشابهة قول أهل الكمون والظهور، والعشرة البقية: الأكوان، والاعتمادات، والتأليفات، والاعتقادات، والإرادات، والكراهات، والظنون، والأفكار، والأصوات، والآلام فهذه العشرة مقدورة لله تعالى وللعباد لتمكينه تعالى إياهم منها، ولا يشكل عليه عد الظنون منها مع أن الله تعالى متعال عن الظنون لأن المراد قادريته تعالى على إيجاد ذلك في غيره كالشهوة والنفرة، وتنقسم إلى مدركة وغير مدركة، فالمدركة: الستة الأول من الثلاثة عشر الأول والأصوات والآلام من الأخيرة، وغير المدركة باقيها هكذا قاله الجمهور.
واعترض عليهم الإمام عز الدين بن الحسن في المعراج شرح منهاج القرشي، فنازعهم بالحصر بالخشونة والنعومة والملامسة.
قلت: وهو اعتراض جيد ولا معنى للحصر إلا باعتبار الوجدان وهو لا يفيد الحصر.
قلت: وفي عد الرطوبة واليبوسة من غير المدركة نظر، لأنه يمكن إدراكها بحاسة اللمس فتأمل.(1/122)


وأما أنواعها: فأنواع الأجسام لا يتأتى العلم بها إلا لله تعالى، لأن الحيوانات على جميع أصنافها داخلة فيها ولا معلومية لنا بكمية أنواعها وكذلك الجمادات، وأما الألوان فباعتبار الوجدان خمسة: البياض، والسواد، والحمرة، والصفرة، والخضرة وما عداها من الأزرق والأدخن واليقق ونحو ذلك يرجع إليها، والطعوم خمسة أيضا: الحلاوة، والحموضة، والمرارة، والنفاحة، والملوحة وما عداها يرجع إليها، وأما الروائح فلا تنحصر لاختلافها باختلاف الأجسام وهي لا تنحصر بل يضاف كل إلى محله، فيقال رائحة المسك ورائحة ورد ونحو ذلك، وأما الأكوان فأنواعها أربعة: الحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق وأما سائرها فمنها ما يمكن الوقوف على تقسيمه وتنويعه ومعرفة كمية أنواعه كالاعتقادات، ومنها ما لا يمكن وهو أكثرها والله أعلم.
التاسع: أنه يجب على المكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر فيما لم يزل وفيما لا يزال ولا يصح خروجه عن ذلك بحال من الأحوال.
وهاهنا يرد سؤال ينبغي معرفة جوابه وهو أن يقال: قلتم: إنه تعالى قادر في الأزل. فهل يصح أن يكون فاعلاً في الأزل؟ إن قلتم: نعم، صححتم مذهب برقلس ومن معه من الفلاسفة الذين قالوا: إن الله تعالى صانع العالم والعالم قديم، وإن قلتم: لا، نقضتم قولكم قادر في الأزل.
والجواب والله الموفق للصواب: أنه لا يلزم من كونه قادراً في الأزل صحة أن يكون فاعلاً في الأزل، لأن كونه قادراً في الأزل معناه أنه غير عاجز بل متمكن من فعل أي شيء أراد ومتى فعله خرج عن كونه أزلياً إلى كونه حادثاً، ومعنى ذلك أن اتصافه تعالى بهذا الوصف وهو التمكن ثابت له بما ليس له ابتداء، وأما كونه فاعلاً في الأزل ففيه مناقضة ظاهرة ليس واقفة ولا لازمة من قولنا: قادر في الأزل، لأن قولنا: فاعل، يستلزم حدوث المفعول، فقولنا: في الأزل، يستلزم قدم المحدث وهو محال.(1/123)


إن قيل: إذا لم يلزم من كونه قادراً في الأزل صحة أن يكون فاعلاً في الأزل فقد نقضتم حد القادر لأنكم حددتموه بأنه من يصح منه الفعل فإذا كان الله تعالى لا يصح منه الفعل في الأزل، لزم أن لا يكون قادراً في الأزل، ونقض الحد حيث أطلقتم القادر على من لا يصح منه الفعل.
قلنا: لم نحد القادر بأنه من يصح منه الفعل على الإطلاق بل قلنا: مع سلامة الأحوال، ومن سلامتها عدم لزوم التناقض المؤدي إليه، قولنا: فاعل في الأزل، دون قولنا: قادر في الأزل ؛ والحاصل أن في قولنا: فاعل في الأزل مناقضة من حيث لزوم اجتماع النقيضين بخلاف قادر في الأزل فليس فيه ذلك، إذ يلزم من فاعل وجود المفعول ولا يلزم من قادر وجوده، وإنما يلزم صحة وجوده إن سلم الحال فإن لم يسلم لم يخرج عن كونه قادراً، بل هو قادر بمعنى إذا أراد أن يفعل فَعَل وإن أراد أن لا يفعل لم يحصل الفعل، فإن قَدَّرنا أنه فعل لم يصح وصف ذلك الفعل أو المفعول بأنه في الأزل بل قد بطل دعوى كونه في الأزل من حيث أنه فعله الفاعل المختار، فتأمل.
وأيضاً فإن قولنا: فاعل في الأزل، يعود على وصفنا له تعالى قادر بالنقض والإبطال وما عاد على الغرض المقصود بالنقض والإبطال فهو بالإبطال أولى.
بيانه: أنه إذا كان ذلك الفعل أو المفعول في الأزل فقد كان قديماً مستغنياً عن الفاعل القديم، ومتى كان الحال كذلك لم يكن أحد القديمين بأن تدعى له القادرية على الآخر بأولى من العكس فتكون دعوى ذلك لأحدهما دون الآخر تخصيص بلا مخصص وترجيح بلا مرجح وذلك باطل بلا ريب، وهذا واضح لمن تأمل كما ترى، فتأمل.
وثمرة هذا البحث التمكن من وصف الله سبحانه بأنه قادر فيما لم يزل مع التمكن من إبطال قول من يذهب إلى قدم العالم مع قوله إن الله تعالى فاعله وصانعه، وبالله التوفيق.(1/124)


ما يجوز إطلاقه من الاسماء على الله وما لا يجوز
العاشر: في معرفة الأسماء التي تجري على الله تعالى بمعنى قادر، ومعرفة مالا يجوز منها.
اعلم أولاً أن العلماء اختلفوا هل الأسماء في حق الله سبحانه وتعالى توقيفية على السمع بمعنى أنه لا يجوز أن يطلق عليه تعالى منها إلا ما ورد السمع به وما لا فلا، أم ليست كذلك بل ما حصل معناه في حق الله تعالى حقيقة وكان ذلك اللفظ يطلق في أصل اللغة على ذلك المعنى بالحقيقة، فإنه يجوز إطلاقه على الله تعالى حقيقة ولا يفتقر إلى إذن سمعي، فقال أئمتنا عليهم السلام ومن وافقوهم من الزيدية والمعتزلة بالثاني، وذهبت الأشعرية والمحدثون ومن وافقهم إلى الأول.
قلنا: يلزم أن من عرفه تعالى قبل مجيء الرسل إليه أن لا يسميه تعالى بأنه قادر عالم حي موجود قديم وذلك معلوم البطلان، وأيضاً فإن أُريد بالسمع المتواتر فليس إلا القرآن وليس فيه أنه تعالى يسمى موجوداً قديماً، وإنما علم ذلك عقلاً لحصول المعنى المطابق للغة وهو أن الموجود ما ظهر أثره، والقديم هو الموجود الذي لا أول لوجوده، فكان يلزم المخالف أن لا يطلق هذين الاسمين عليه تعالى مع أنهما من أَجَلِّ أسمائه الحسنى، وقد تجاهل بعض أهل عصرنا ممن يذهب إلى أن الأسماء توقيفية لما ألزمته ذلك فقال: لا نسميه تعالى موجوداً ولو كان موجوداً، وهذه جهالة مفرطة سببها الرغوب عن هذا الفن الشريف.
إن قيل: ما هي النكتة والسر في عدم ورود ذينك الاسمين الجليين في القرآن الكريم؟(1/125)

25 / 311
ع
En
A+
A-