وأما على أصل العدلية من أن الكذب قبيح لأجل ذاته لا لأجل النهي عنه وإنما النهي من لوازمه اللازمة لقبحه، فلا يتأتى تجويز الكذب في خبره تعالى، فهو أصدق القائلين عند العدلية يقيناً وعند المجبرة تسليماً ظاهراً، وأما باطناً فهو على مذهبهم الباطل وأصلهم العاطل أكذب الكاذبين، لأن كل كذب في الواقع من ابتداء التكليف إلى منقطعه فالله عندهم فاعله وخالقه ومريده ومقدره، وكل كذب مجوز الوقوع مما لم يكن قد قال به أحد كأن يذهب بعض الكفار إلى القول أن الآلهة التي لها ملك السماوات والأرض وهي ثلاثون أو أربعون أو نحو ذلك من أنواع الكفر التي لم يكن قد ذهب إليها قائل، فإن مذهب المجبرة يقضي بجواز أن يخبر الله سبحانه وتعالى بذلك ويعلم الخلق ويتعبدهم به لأنه غير منهي عنه، وهذه من أعظم فواقرهم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، وهذا كالخارج عما نحن بصدده إلا أنه أنجز إليه الكلام استطراداً من الاستدلال بالآية الكريمة.
الثالث: أن الله تعالى قادر على فعل القبيح، ولكن يستحيل حصوله منه تعالى من جهة كونه عدلاً حكيماً لا من جهة أنه عاجز عنه فلا، بل هو على كل شي قدير، وهذا قول أئمتنا عليهم السلام والجمهور خلافاً للنظام والمجبرة.
أما النظام فشبهته أنه لا يمكن أن يفعل القبيح إلا مع الحاجة إليه أو الجهل بقبحه، وكلاهما محال، وما تفرع على المحال فهو محال.
قلنا: لكن هذا لا يستلزم خروجه عن كونه قادراً عليه، وإنما يستلزم أن لا يفعله لئلا يكون محتاجاً أو جاهلاً فينزه عن فعل القبيح كالظلم والكذب لذلك لا لكونه غير قادر عليه، ولأن المعلوم في قوله تعالى: ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ?، أنه تعالى قادر على حذف إلا فيصير الخبر كذباً، وأن يعذب الطفل والمؤمن بغير ذنب فيصير التعذيب ظلماً.(1/116)
وأما المجبرة فبتأمل أصلهم أن قبح القبيح للنهي عنه فلا يقدر على القبيح لاستحالة المقتضي لقبحه وهو النهي، وقال أبو الحسين والشيخ محمود: إنه ممكن منه تعالى بالنظر إلى القادرية مستحيل بالنظر إلى الداعية، وهذا في المعنى كالأول إلا أنه لا يجوز عندنا إطلاق الداعية على الله لإيهام الحاجة، ذكره شيخنا رحمه الله تعالى.
الرابع: أن الله تعالى يقدر على عين ما قدر عليه العبد لأنه من جملة الممكنات، فوجب شمول قادريته تعالى على مقدورات العباد ولأنه قادر على ذلك قبل وجود خلقه فلا يمنع من ذلك وجودهم، ولأنه يلزم أن لا يكون قادراً إلا على مقدور لا قادر عليه فيلزم تعجيزه تعالى، ذكره شيخنا رحمه الله تعالى عن قدماء أئمتنا عليهم السلام قال: كذا قالوا ولم أجده، وقال القرشي في المنهاج وحكاه عن الجمهور: أنه محال،وهو ظاهر عبارات أكثر المتأخرين كالنجري والمهدي عليه السلام وغيرهم.
قلت: هذه المسألة التي يعبر عنها كثير من المتكلمين بقولهم: مقدور بين قادرين وعبر عنها القرشي بقوله في بعض المواضع: تزايد الوجود، وربما يتوهم بعضهم أنها مسألة تحصيل الحاصل، فينبغي تفصيل الكلام في ذلك، وبيان مواضع الخلاف والوفاق من ذلك وبيان ثمرة كل ما هنالك، فأقول وبالله التوفيق: الذي يظهر والله أعلم أنها ثلاثة أطراف:
الأول: ما تصدر به البحث وهو أن الله تعالى قادر على عين ما قدر عليه العبد.
الثاني: مسألة مقدور بين قادرين.
الثالث: مسألة تحصيل الحاصل، فبعض العلماء يجعل الجميع شيئاً واحداً ويحيلها جميعاً لأنها عنده ترجع إلى تحصيل الحاصل، وبعضهم يفرق بينها ويصحح الأول دون الأخيرين، وبعضهم يصحح الأولين، واتفقوا على إحالة الثالث.(1/117)
أما الطرف الأول: فقد تقدم الكلام فيه بما هو الحق الذي دلت عليه الأدلة المذكورة، ولأنه من جملة الأشياء الممكنة في ذاتها فدخل في عموم قولنا: إنه تعالى قادر على كل شيء، فلا وجه لإحالته وجعلهم له من باب تحصيل الحاصل غير مسلم لأنا نفرض الكلام مثلاً في كتابة بسم الله الرحمن الرحيم أو نقل حجرة من مكان إلى غيره فإن كتابة ذلك ونقل تلك الحجرة مقدور لزيد، ولا شك أن الله تعالى قادر على ذلك فقد قدر تعالى على عين ما قدر عليه العبد بلا شك، فقد حصل مطلوبنا ولا أظن أحداً يخالف في ذلك.
وثمرة القول بذلك عدم لزوم تعجيز الله تعالى ووصفه بشمول قادريته تعالى على كل شيء، فأما تعليلهم إحالة ذلك بأنه إن فعله زيد فهو فعله، فصدور ذلك الفعل من جهة الله تعالى مستحيل وإن فعله الله تعالى فهو فعله تعالى، فصدور ذلك الفعل من زيد مستحيل فأمر وراء ذلك، لأن الفعل بعد صدوره وانقضائه مستحيل بكل حال، فلا وجه لقولهم: إن الله تعالى لا يقدر عليه وإنما يقدر على جنسه وعلى مثله لأن ذلك جار فيما فعله زيد، فإنه بعد أن يفعل الفعل يستحيل عليه أن يفعل عين ذلك الفعل وإنما يقدر على جنسه وعلى مثله، فتبين لك بهذا أن ذات الفعل الذي يقدر عليه زيد هو مقدور لله تعالى.(1/118)
مسألة مقدور بين قادرين فأكثر
وأما الطرف الثاني: وهو مسألة مقدور بين قادرين فأكثر.
فإن عين بذلك وأريد به مقتضى اللفظ والعبارة فلا تسلم إحالته، لأن كتابة ونقل ما ذكر في المثال مقدور لله ومقدور لزيد مقدور لعمرو ولغيرهما من سائر القادرين، وإن أريد مفعول بين فاعلين على سبيل الاشتراك فلا تسلم الإحالة بل ذلك ممكن عقلاً ضرورة بأن يمتلكا قلم الكتابة معاً ويكتبا ذلك من أول حرف إلى آخر حرف أو يمسكا الحجر معاً ويرفعاها في حالة واحدة، وإن أريد على سبيل الاستقلال بأن يوجد ذلك الكَتْب والنقل جميعه من زيد فوجوده من عمرو قبل ذلك ممكن لأنه مقدور له وحال فعل زيد له مستحيل على عمرو وبعده مستحيل عليهما جميعاً، فمن قال مقدور بين قادرين ممكن كصاحب الأساس وشارحه عليهما السلام وغيرهما أراد به الصورة الأولى وهي ما إذا كان على سبيل الاشتراك، وكذلك إذا أراد عمرو فعل ذلك قبل أن يفعله زيد فإنه قبل ذلك مقدور لهما ولغيرهما كما عرفت، ومن قال مقدور بين قادرين محال كالمهدي عليه السلام وغيره فمراده على سبيل الاستقلال فحال وجود الفعل من زيد أو عمرو، فإنه يستحيل عند ذلك فعله على الآخر وبعد وجوده مستحيل عليهما معاً وعلى غيرهما كما عرفت لأنه من باب تحصيل الحاصل.
وثمرة القول الأول: عدم لزوم تعجيز الله تعالى عن فعل شيء ووصفه تعالى بشمول قادريته على كل شيء.
وثمرة القول الثاني: تنزيه الله تعالى عن تجويز مشارك له في خلقه الأجسام والأعراض الضروريات التي هي الألوان والروائح والحياة ونحوها، وإن أفعال العباد المعلوم صدورها لا يصح أن تكون من فعل الله تعالى، وأما أنها مقدورة له وهو قادر عليها لو أراد أن يفعلها، فلا يختلف في ذلك اثنان، فعلمت بهذا حسن مقصد الجميع وهي الملاحظة لتأكيد قواعد التوحيد والعدل وحراستها عن المناقضة، فهم سلام الله عليهم سفن النجا ومصابيح الدجى.(1/119)
مسألة تحصيل الحاصل
وأما الطرف الثالث: وهو تحصيل الحاصل.
فقد علم مما مر ولا خلاف في إحالته، ولا يلزم منه تعجيز الباري تعالى لأن من فعل شيئاً لا يقال له عاجز عنه بل قادر عليه، فيوصف سبحانه وتعالى بأنه قادر على خلق السماوات والأرض بمعنى أن صدورهما عنه تعالى على وجه إن شاء فعل وإن شاء ترك، وأنه قادر على إعدامهما بعد وجودهما لا بمعنى تحصيلهما بعد حصولهما، لأن ذلك تحصيل حاصل وتحصيل الحاصل محال، فلا يقال فيه قادر ولا عاجز لأن كلا الوصفين متفرعان على الإمكان وهو غير ممكن.
وثمرة القول بأن تحصيل الحاصل محال: هي إبطال زعم من يُسند بعض أفعال الله تعالى إلى غيره من الأولياء أو الجن أو الملائكة أو الأصنام أو العلل أو الطبائع، فعلمت أن الجميع من أهم المسائل وأنفعها، وأنه لا خلاف متحقق بين الأئمة عليهم السلام يعود إلى المعنى المخل بقواعد التوحيد والعدل، وكيف يتأتى ذلك في خلد عاقل وقد جعلهم الله تعالى قرناء الكتاب وأماناً لهذه الأمة من نزول العذاب!
الخامس: زعمت المجبرة أن الله تعالى هو المؤثر في مقدور العبد ولا أثر لقدرة العبد فيه، ذكر معنى ذلك شيخنا رحمه الله تعالى في السمط قال: وهو أصل الجبر وسيأتي في بابه.
السادس: زعم أبو القاسم البلخي من المعتزلة: أن الله تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علماً ضرورياً فيما علمناه استدلالاً، وأن معرفة الخلق للباري تعالى في الآخرة استدلالية. ذكر بمعنى ذلك شيخنا رحمه الله تعالى في السمط قال: وهذا بناءٌ على أصله أن المعارف استدلالية وهو باطل.(1/120)