نعم فإذا قيل لك: أربك قادر [ أم غير قادر؟ فقل: بل قادر ] على كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذا مذهب جميع من أقر بالصانع المختار، إلا أنه يلزم المطرفية أن لا يكون قادراً لأنهم لما أسندوا الفعل على اختلافه وأنواعه إلى الأصول الأربعة الماء والنار والهواء والتراب مع أنها عندهم ليست قادرة، لزمهم إبطال الدليل الدال على أن الله سبحانه وتعالى قادر حيث جوزوا فعلاً من غير قادر، لا يقال: قد قلتم: إن العلم بأن الفعل لا يصح إلا من قادر ضرورة ولا يحتاج إلى الاستدلال فلا يرد عليهم هذا الإلزام، لأنا نقول إن العلم بذلك ضروري، لكنهم نقضوه وباهتوا بإسنادهم التأثير والإحياء والإماتة إلى تلك الأصول الأربعة، فأجرينا الكلام معهم على التنزل ليعرف بطلان ما اعتقدوه من التأثير لها وهذا واضح، قال عليه السلام في الاستدلال على أن الله تعالى قادر جرياً على قاعدة بعض أئمتنا أن العلم بذلك بعد إثبات الصانع يحتاج إلى استدلال كما مر في حكاية القولين، [ لأنه أوجد هذه الأفعال التي هي العالم ]، والعَالَم في اصطلاح المتكلمين: اسم لجميع ما عدا الله سبحانه قيل: إنه مشتق من العلم، فأما لما يعلُم به الباري تعالى فيتناول كل ما سواه، وأما لمن يقوم به العلم فيتناول الملائكة والثقلين وعليه جاء صيغة جمع العقلاء في قوله تعالى: ?الحمد لله رب العالمين ?، [ والفعل لا يصح إلا من قادر له ]، عَدَّاه باللام وهو مما يتعدى بعلى لأنه ضمنه معنى مالك ليشير إلى نكتة أخرى وهي مع كون الله تعالى قادراً على كل شيء فهو مالك لكل شيء ?لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?{الحديد:2}، دليل آخر لهم أنا وجدنا في الشاهد حيين كزيد وعمرو، الأول حاول حملاً ثقيلاً فحمله، والآخر حاوله فتعذر عليه، فيجب أن يمتاز الأول عن الآخر بمزية لولاها لما صح منه ما تعذر على الآخر، وقد عبر أهل(1/111)


اللغة عن تلك المزية بأن سموا الأول قادراً دون الآخر فسموه عاجزاً، والله تعالى قد صح منه ما تعذر على غيره وهو العالم فيجب أن يكون قادراً، وهذان الدليلان كما ترى يلحقان بالعلم الضروري، وإنما تحريرهما على هذه الكيفية زيادة في الإيضاح، فلا ينافي ما مر عن جمهور أئمتنا عليهم السلام أن العلم بذلك بعد إثبات الصانع تعالى ضروري، ويمكن المناقشة على هذين الدليلين بأن غاية مفادهما صحة أن يطلق على الله تعالى لفظة قادر لا أنهما المفيدان ثبوت معنى القادرية له تعالى.
دليله: أن الصغرى في هذين الدليلين هي عين مسألة إثبات الصانع وهي في الأول قوله: لأنه أوجد هذا العالم، وقولهم في الثاني والله تعالى قد صح منه ما تعذر على غيره وهو العالم، والكبرى فيهما هي عين النتيجة وهي قوله في الأول: والفعل لا يصح إلا من قادر، وقولهم في الثاني ومن صح منه ما تعذر على غيره فهو قادر، فلم يكن في الاستدلال تأسيس فائدة معنوية بل تأكيد لقضية ضرورية وتمشية لقاعدة لفظية على مسلك اللغة العربية، فصار حال هذين الدليلين في إفادتهما التأكيد دون التأسيس كما قولنا العشرة زوج لأنها منقسمة بمُستويْ، فإن قولنا: لأنها منقسمة بمستوي، ليس دليلاً على صحة قولنا العشرة زوج، لأن كون العشرة زوج معلوم ضرورة يعلم ذلك جميع العقلاء حتى النساء والصبيان وبُلْه الرجال، ولو كانت دليلها للزم أن لا يعلم أحدٌ أن العشرة زوج إلا من علم أنها منقسمة بمستوي مع أن النساء والصبيان ونحوهم يعلمون ذلك من دون أن يتوقف علمهم بذلك على العلم بأنها منقسمة بمستوي، بل أكثر أهل النظر يعلمون أنها زوج قبل أن يخطر لهم انقسامها بمستوي على بال أو يمر لهم ذلك على خيال.(1/112)


بحوث مفيدة في مسألة قادر
وإذا ثبت أن الله تعالى قادر على حسب ما مر من الخلاف هل ذلك ضروري بعد إثبات أنه صانع العالم أم استدلالي؟ فاعلم أنه يتصل بهذه المسألة أبحاث متفرعة على كونه تعالى قادراً:
الأول: أن الله تعالى قادر على ما يفعله من جميع أفعاله تعالى اختراعاً بمعنى أن ذلك ليس على سبيل الاحتذاء أو الاقتداء بفعل غيره، ولا مباشرة ولا تعدية بل متى أراد شيئاً [ أوجده تعالى من دون مماسة ولا بآلة ] لأن المماسة والآلة من شأن الأجسام المحدثة المحتاجة إلى الآلة، والله سبحانه قديم غني لا تجوز عليه الحاجة كما سيأتي تقرير ذلك في محله، وقد مثل سبحانه وتعالى لكيفية إيجاده واقتداره على إيجاد ما أراد أن يوجده بقوله تعالى: ?إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?{يس:82}، ومثله قوله تعالى: ?إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ?{النحل:40}، وقال أبو الهذيل: بل هو على حقيقته، قلنا: يلزم الاحتياج إلى لفظة كن، وأيضاً فلفظة كن، من جملة أفعاله فتحتاج إلى كن وكن إلى كن فيتسلسل.(1/113)


الثاني: أن مقدوراته سبحانه وتعالى لا تنحصر ولا تنتهي إلى حد، لأنه تعالى قادر بذاته ولا اختصاص لذاته بمقدور دون مقدور، فيجب أن يقدر على المقدورات ومن كل جنس ونوع منها لا نهاية له بحد ولا عد، فأما ما أوجده فهو محدود معدود في علمه تعالى لأنه عالم بكل شيء، وعلى هذا المعنى يعلم مصداق قوله تعالى: ?وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? {لقمان:27}، حيث أخبر سبحانه أن هذا البحر التي تجري فيه السفن على سعته وعمقه لو كان مداداً، ثم كتبت به الكلمات المعبر بها عما يقدر عليه الله تعالى ويعلم لنفد هذا البحر، ثم إذا أتي ببحر آخر مثله لنفد كذلك، ثم كذلك إلى سبعة أبحر، ولقد وقعت مذاكرة من الحقير لبعض مشايخ عصرنا وطلبت منه تصوير المسألة وتحقيق كيفيتها حتى يعلم يقيناً صحة الخبر مع قطع النظر عن قائله، فلم يجد غير أن اعتمد على مجرد الآية وكونها كلام أصدق القائلين، فقلت له: لا شك أن ذلك دليل كافٍ حيث أنه تعالى لا يقول إلا الحق وهذا في الحقيقة دليل سمعي،ولكن كيف الدلالة العقلية المخرجة للمسألة إلى حيز الظهور الشاهد بمصداق الآية الكريمة؟ فلم يجد سبيلاً إلى ذلك، فقلت له: ألا تروا أن الله تعالى قد خلق السبع السماوات والأرض وما بينهما وسيخلق الجنة والنار وغيرهما من مخلوقات الآخرة فقال: نعم، فقلت له: ثم هو سبحانه قادر على أن يخلق مثله ومثله ومثله إلى مالا ينتهي، فإذا تكلمنا في أجزاء ذلك كله باعتبار الجوهر الفرد، وقلنا: في كل جسم من أجسام السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، وكذلك الجنة والنار وسائر المخلوقات التي ستوجد في الدنيا والآخرة، وقلنا: في كل جوهر منها وهو الجزء الذي لا ينقسم هو بالنسبة إلى الآخر إما مجتمع معه أو مفترق وأيَّمَّا كان، فأما من جهة اليمين أو الفوق أو(1/114)


الأمام أو أضدادها، ثم المفترق إما ببعد أو بقرب فيستلزم الكلام في كمية ما بينهما من الجواهر فيحتاج كل جوهر إلى كلمات يعبر بها عما بينه وبين الآخر من تلك الأجزاء ومن أي الجهات وكل منها في نفسه محترك أو ساكن، وماذا طَعْمُهُ؟ وماذا لونه؟ وماذا خواصه ؟ ومدة لبثه في الوجود ؟ ومتى عَدِم ؟ فيعلم سبب عدمه على أنه لا حصر لتلك الأسباب لتعددها بتعدد الذوات التي طرأ عليها العدم إلا للعليم بكل شيء سبحانه وتعالى ونسبة كل جوهر من الآخر باعتبار القَبْلِيَّة والبَعْدِيَّة والمصاحبة على جهة التلازم أو عدمه، فإذا فرغ من كتب جميع الكلمات المعبر بها عن جميع الأحوال المذكورة في جميع الجواهر الدنيوية والأخروية ثم أخذ في كتب أحوال ما هو قادر عليه وهو مثل ذلك كله، ثم أخذ في كتب أحوال مثل ذلك ثم كذلك، فلا بد قطعاً ينفذ هذا البحر وتنفذ بعده السبعة البحار وأكثر منها، وجهة الإمكان والقادرية لله تعالى باقية مفتوحة لا تنسد إلى مالا نهاية، له فقال: صحيح صدقتم، بهذا يعلم مصداق الآية الكريمة مع قطع النظر عن قائلها الذي هو أصدق القائلين، هذا معنى ما جرى من المذاكرة وأكثره باللفظ والله ولي التوفيق.
وأما الاعتماد على مجرد الآية وأنها كلام أصدق القائلين، فإنما تفيد العلم على القول بالعدل دون القول بالجبر لأنه لا يمتنع على أصول المجبرة أن يدخل الكذب في خبره، تعالى عن ذلك إذ ليس بمنهي إذ يخبر عن شيء بخلاف ما هو عليه، فلا تفيد الآية على قولهم: إن الأمر في شأنه تعالى كما ذكر لاحتمال الصدق والكذب فيها على أصلهم الباطل.(1/115)

23 / 311
ع
En
A+
A-