قلنا: لم ندع أن العلم بالصفات ضروري بكل حال، بل قلنا: إنه بعد العلم بالذات سواء علمت الذات ضرورة كالمشاهدات أو استدلالاً كالباري تعالى والملائكة والجن ونحو ذلك، والباري تعالى إنما علم بفعله المحكم والفعل المحكم، يستلزم العلم لنا ضرورة أنه لا بد أن يكون فاعله قادراً عالماً حياً موجوداً، وإلا لجوزنا فعلاً محكماً ممن ليس كذلك، فيؤدي إلى تجويز الفعل ممن هو عاجز جاهل ميت معدوم وهو محال أو تجويز الفعل بلا فاعل وهو محال أيضاً، وكذلك العلم بصفات الملائكة والجن فإنا بعد العلم بهم الاستدلالي وهو إخبار الرسل صلوات الله عليهم بهم وأنهم أحياء مكلفون، فإنا نعلم ضرورة أنهم عند تكليفهم موجودون أحياء قادرون عالمون بما كُلِّفوه، وكذلك لو علمنا وجود ملك في أقصى الأرض علماً استدلالياً بما يرسله ويجهزه من الجنود والآلات الحربية، فإنا نعلم ضرورة أنه عند ذلك قادر عالم حي موجود.
قالوا: يحتمل التشكيك بالطبع ونحوه من المؤثرات على سبيل الإيجاب.
قلنا: محل هذا التشكيك عند الكلام على إثبات الصانع لا بعد إثباته بالأدلة التي اقتضت أنه فاعل مختار فلا مجال لذلك، فتأمل.
وحيث قد عرفت أن المؤلف عليه السلام من أهل القول الثاني، فقد أفرد لكل مسألة فصلاً لذكر دليلها وتقرير العلم بها، وفي التحقيق لا مشاححة في نحو هذا فهو كما في نزول الآيات على المؤمنين فيزدادوا بها إيماناً إلى إيمانهم ويقيناً إلى يقينهم، فعليه يكون ونبني ما سيصدر من القلم في أثناء هذا الشرح من الكلام الدال على كمال قدرته وإحاطة علمه تعالى على كل شيء وبكل شيء.
I
فصل
في الكلام في أن الله تعالى قادر
والفصل في أصل اللغة: هو الفارق بين الشيئين، وفي الاصطلاح: عنوان طائفة من المسائل سوى ما ذكر قبله.(1/106)
قال عليه السلام: [ فإن قيل: أربك قادر؟ ]،حقيقة القادر: هو من يصح منه الفعل مع سلامة الأحوال، قلنا: من يصح منه الفعل، جنس الحد يدخل فيه كل من صح منه الفعل سواء صح منه ذلك لأجل ذاته كالباري تعالى أو لأجل القدرة القائمة به كما في غيره تعالى من سائر القادرين على أفعالهم كالملائكة عليهم السلام والجن وجميع الحيوانات، وخرج بإضافة الصحة إلى الفعل صدور المسببات إلى أسبابها، فإنه لا يقال فيه صحة الفعل بل يقال صحة الأثر كانكسار الزجاج عند مصادمة الحجر وسقوط الثقيل من أعلى إلى أسفل، وقلنا: مع سلامة الأحوال، ليدخل فيه ما إذا منع من الفعل مانع بعد صحته من القادر عليه كالصحيح القوي على المشي إذا قُيَّد بِقَيْدٍ منعه المشي فلا يخرج بذلك عن كونه قادراً على المشي، وكمصاحبة الضد للفعل المقدور كأن يريد أحدنا المشي يمنة حال مشيه يسرة، فإن حصولهما جميعاً في حالة واحدة ممتنع، والمانع التضاد بين صفتي المشي، فإن صفة كونه يمنة ضد صفة كونه يسرة، ولكن ذلك لا يخرج القادر عليه عن كونه قادراً على المشي يمنة ولا عن كونه قادراً عليه يسرة، ولا يقال فيمن تعذر عليه الفعل لأجل التضاد عاجزاً لأن العاجز من تعذر عليه الفعل الممكن في ذاته، والمتضادات يستحيل الجمع بينهما لاستحالة اجتماعهما في ذاتها، فتأمل ذلك فهو بحث نفيس، ومنه يعلم أنه لا يصح أن يقال: إن الله تعالى عاجز عن الجمع بين الضدين، ولا أن يقال: إنه قادر على ذلك لأن العجز والاقتدار على الفعل متفرعان على كون الفعل ممكن في ذاته، فأما وهو مستحيل في ذاته فلا يتصف بأيهما لأن الوصف بأيهما يستلزم أن الفعل ممكن في ذاته فهو غلط لعدم صحته وكذب لعدم مطابقته الواقع، ويدخل فيه أيضاً فاقد الشرط المتمكن من تحصيله كالقيام وفتح الباب وفي رد الوديعة والمظلمة من الصحيح الحاضر، فإنه إذا ترك رد الوديعة والمظلمة بإخلاله بالقيام وفتح الباب لا يخرج بذلك عن كونه قادراً، فأما إذا(1/107)
تركهما لمرض مدنف فإنه يخرج عن كونه قادراً، ويدخل فيه أيضاً فاقد الآلة كالدواة والقلم والرق في الكتابة في حق من يقدر عليها، فإن فقد ذلك لا يخرج عن كونه قادراً، وهذا واضح.
فإن قيل: فهلا زِيْدَ في الحد من يصح منه الفعل الممكن فَلِمَ حذفتم لفظة الممكن واستغنيتم عنها ؟
قلنا: لأن المستحيل لا يقال له فعل فلم يتناوله قولنا صحة الفعل حتى يحتاج إلى إخراجه بما اعترض به السائل، إذ المستحيل ليس بشيء فلا يتناوله العموم في قوله تعالى: ?على كلي شيء قدير ?.
فإن قيل: فقد حددتم الشيء بقولكم هو ما يصح العلم به والخبر عنه، والمستحيل يصح العلم به والخبر عنه بأنه لا يمكن وجوده وهذا لا يسعكم إنكاره، ولئن وسعكم إنكار دخوله في عموم قوله تعالى: ?على كل شيء قدير ?، ما أمكنكم إنكار دخول عمومه في قوله تعالى: ?بكل شيء عليم ? ؟
قلنا: أما على أصل بعض أئمتنا عليهم السلام وبعض شيعتهم وبعض المعتزلة والأشعرية القائلين بأن الشيء خاص بالموجود فقط فلا يرد السؤال ولا يدخل في عموم الآيتين، وأما على أصل بعض أئمتنا عليهم السلام وبعض شيعتهم وبعض المعتزلة القائلين بأن الشيء يتناول الموجود والمعدوم كما مر تحقيق المذهبين، فإنهم يخصون المعدوم الممكن وجوده بصحة إطلاق الشيء عليه فلا يدخل في ذلك المستحيل فلا يتناول عموم الآيتين،وأما أنه يصح العلم به والخبر عنه فقد قال سيدي شرف الإسلام الحسين بن الإمام القاسم عليهما السلام في شرح الغاية: وقد يعتذر عن هذا بأن المعدوم والمستحيل يسمى شيئاً لغة.(1/108)
قلت: لكن النظر في ذلك هل حقيقة أو مجاز ؟ وعلى كل حال فالعقل هو الذي صرف اللفظ عن عمومه في: ?على كل شي قدير ?، بإخراج ذات الباري تعالى والمستحيل وأبقاه على ظاهره من: ?بكل شيء عليم ?، لأن ذاته والمستحيل من جملة المعلومات وليست من جملة المقدورات، وما ذكرناه من الحد هو على رأي جمهور أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم من القائلين بأن صفات الله سبحانه ليست زائدة على ذاته.
وقال: بعض أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم: القادر هو المختص بصفة لكونه عليها يصح منه أن يفعل وأن لا يفعل، وبعضهم يقول لكونه عليها يصح منه الفعل مع سلامة الأحوال، ثم يفسرون تلك الصفة بكونه قادراً.
قلت: وهما في الاحتراز بمعنى الأول إلا أن هذين الحدين معترضان بأنهم فسروا الصفة بكونه قادراً وَهْمٌ في تحديد القادر، وذلك معيب عند أهل الحدود ومبنيان على أن الصفات أمور زائدة على الذات شاهداً وغائباً ولا يسلم إلا في الشاهد، فأما في الغائب فسيأتي الكلام على ذلك وتحقيقه بمحله إن شاء الله تعالى.
واعلم أنه يْشْكِل على قولنا: الله قادر وعالم، وقولنا: زيدٌ قادر وعالم بالنظر إلى الاشتقاق اللغوي، ذلك أن القادر والعالم مشتقان من فعل القدرة والعلم كضارب وقاتل، وهذا المعنى في وصفنا الله تعالى بأنه تعالى قادر وعالم بمعنى أنه خلق لنفسه القدرة والعلم حتى صار لأجلهما قادراً عالماً باطلٌ قطعاً بل مستحيل، لاستلزامه الحدوث وأنه قبل ذلك بالضد من ذلك تعالى الله عما هنالك، وفي وصفنا زيداً بأنه قادر وعالم باطلٌ أيضاً، إذ لم يكن زيد فعل لنفسه القدرة والعلم حتى يشتق له اسم فاعل منهما بل الله الذي خلق له القدرة والعلم الضروري ابتداء، والاستدلالي قيل: متولد من فعل العبد بالنظر الصحيح، وممكن أن يقال يخلقه الله عند النظر الصحيح كما يخلقه عند تواتر الخبر بالمخبَر.(1/109)
والجواب والله الموفق للصواب: أن هذا الإشكال المركب من قواعد الاشتقاقات اللغوية لا يلتفت إليه مع معارضته للأدلة العقلية القطعية واعتضادها بالأدلة السمعية، لأن الاشتقاق تارة يكون لمن فعل الفعل كقام وضرب، وتارة لمن قام به المعنى كمرض ومات، وتارة لمن لم يفعل ولا قام به المعنى كأنبت الربيع البقل، وتارة يسند الفعل إلى السبب وتارة إلى المسبب، وتارة إلى المكان وتارة إلى الزمان ونحو ذلك من الاشتقاقات والاسنادات الواقعة على وجه الحقيقة أو المجاز، وقد علمنا باستقراء اللغة وصدق ذلك العقل بأن القادر من صح منه الفعل مع قطع النظر هل تلك الصحة لأجل ذاته بِلاَ قدرة فعلها لنفسه أم بقدرة فعلها له غيره أم لماذا كانت تلك الصحة، وكذلك في عالم ومع ورود السمع بتسمية الله تعالى نفسه وغيره قادراً عالماً من دون قرينة تدل على المجاز في الطرفين، فعلمنا أنهما حقيقة في قول الله تعالى قادر عالم، وفي قولنا: زيد قادر عالم، ذكر معنى بعض ذلك في شرح الأساس عن بعضهم وقال: إنه اعترض به على بعض الأئمة عليهم السلام أنه يلزم منه الجبر لأن زيد في الحقيقة مقَدر ومعلم وليس بقادر وعالم، وأجاب عليه بأنه يسمى قادراً عالماً مجازاً بإذن الشرع، وأن المجاز إذا اشتهر لا يحتاج إلى القرينة، وهذا الإلزام والجواب فيه ما فيه كما ترى، وإنما الإشكال فيه والإلزام الذي يعترض به عليه هو ما صدرناه في أول البحث وجوابه ما ذكرناه، ولم يجعل البحث في شرح الأساس إلا في هذا الطرف الأخير وهو وارد في الطرفين، والجواب مشتمل عليهما والله أعلم.(1/110)