وآية ثالثة شاملة لجميع أصناف العَالَم وهي قوله تعالى: ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ? {البقرة:164}، فانظر إلى هذه الآية الكريمة وتأمل ما ذكر فيها من الدلالات المفيدة والآيات العديدة على سبيل الإيجاز غير المخل والإعراض عن الإسهاب غير الممل على أن كلامه تعالى لا يمل ولا يَخْلَق على كثرة الرد وبلاغتها في المعنى، فإنه لم يذكر فيها سبحانه الملائكة والجنة والنار ونحو ذلك مما لم يكن معلوماً عند المحتج عليه بتلك الآية والمتوجه إليه الخطاب بها وهو الإنسان المكلف، لأنه لا يصح الاحتجاج إلا بما هو معلوم عند المخاطب ذاتاً مجهولاً دلالة، فنبه على الدلالة بذكر اختلاف الليل والنهار صراحة وغيرها ضمناً واقتضاء إن قدرنا المضاف وهو اختلاف في كل ما عطف وذكر بعد الليل والنهار، ثم ختم الآية بأبلغ ختام وهو قوله: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?، فحكم لمن نظر وتفكر وعلم بذلك ثبوت الصانع الحكيم بالعقل الوافر، وأدرج تعظيم المتفكرين العارفين في الإتيان بصيغة التنكير، وسَجّلَ على من لم يتفكر ويتدبر في ذلك بعدم العقل ذماً له وإخراجاً له عن دائرة العقلاء، فسبحان من أحكم كلامه، ووضعه في أرفع درجات البلاغة، وأوجده ورفعه عن طوق البشر ومشابهة كلام أهل الخلاعة، ولعمر الله إن وجود القرآن على هذا الوجه الذي يعجز عن الإتيان بمثله جميع المخلوقين كاف في الدلالة على إثبات الصانع الحكيم سبحانه، فكيف وما من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا من سكون أو حركة في(1/101)


البر أو بحور الماء إلا وفيه أدلة ظاهرة وبراهين قاهرة تدل على وجود القدير العليم:
فيا عجباً كيف يُعصى الإلـ .... ـه أم كيف يجحده الجاحدُ؟
ولله في كل تحريكة .... وتسكينة أبداً شاهدُ
وفي كل شيء له آيةٌ .... تدل على أنه واحدُ
وإذا تقرر من جميع ما مر أن العالم محدَث وأن محدِثه لا يصح أن يكون شيئاً مما يزعمه أهل الإلحاد كما مر حكايتها عنهم وإبطالها كما مر أيضاً، وثبت في العقول بأن المحدَث لابد له من محدِث ووجب عقلاً أنه لا يجوز العدول عن المعلوم إلى الخرص الموهوم، بل يجب الاقتصار على ذلك المحقق المعلوم وجب علينا القضاء والحكم [ بأن الذي أحدثها وصورها وخالف بينها ] ليس [ هو ] إلا [ الفاعل المختار وهو ] الله الذي لا إله إلا هو [ الحي القيوم ] وأنه رب كل شيء وخالقه وهو على كل شيء قدير.
ولنختم هذه المسألة العظيمة التي هي أساس كل ما عداها من مسائل أصول الدين وفروعه وعلى مدار الجهل أو العلم بها أُفول الإيمان وطلوعه بالقصيدة التي أنشأها كاتب الأحرف غفر الله زلته في سنة 1329 هـ، ثم عرضتها على شيخنا صفي الإسلام وخاتمة المحققين في الكلام أسكنه الله دار السلام، فَهذّبها وقررها فتشرفت بنظره الثاقب وتجودت بتقريره الصائب على أنها شريفة لشرف موضوعها، وعظيمة لعظم منفوعها، وعلى المسترشد أن ينظر إلى المقال، ولا ينظر إلى من قال، فلا غنية عن ذكرها في هذا المقام لتضمنها جميع ما ذكر من الكلام، فحسن بذكرها في هذه المسألة الختام، وتجود بإدراجها في هذا الموضع التمام، وأسأل الله أن يجعلها ذخيرة عند القيام:(1/102)


فليس الوجود له عن عدمْ
هو الآخر المبتديء للأممْ
ومُحدَثَه صنعه المنتظم
وكل غني فمنه اغتنَم
وليس له مثل يُلتَأَم
ذكاهم عن الكُنْهِ أعمى أصم
له الأمر مولاهمُ المُعْتَصَمْ
ئق بعد الفنا والعدم
مدبرهم في الحِشا والظُلَم
مصورهم كيف ما شاء أتم
على اثنين فافهم صحيح القِسَم
وكلٌ فأفراده تُرتَسَم
إذا كان في اللبس قبح يُضِم
كنحو الغراب فكم ذا الحِكَم
وفي الأرض فانظر بفكر أتم
دلائلُ في الليل إن قد هجم
حثيثاً وبطئاً على ما حكم
دجى الليل حتى أزاح الظُلَم
وحجماً وحراً لقصد النعم
تدل على صانع ذي عظم
وبينهما في اختلاف أتم
منازل للوقت كانت عَلَم
لئلا تميد بتلك الأُمم
خواصاً ولوناً وضخم الجِسَم
على كل صنف وطعم وشَم
وكم حلية فيه كي تُغتنم
وهيئاته وقته ملتزم
إليه ومن بعد جحر ألم
لإحياء زرع لتلك الأمم
وفي تارة مفزعا ذو ألم
لإيناع أثمارنا تصترم
وفي تارة رحمة بالديم
دلائل صدق على ذي القدم
وأنواعها أربعٌ في القِسَم
جَنُوبٌ دَبُورٌ بعكس أتم
وقد تأت بالعكس قصد النقم
وأصنافه ليس تحصى بفم
خلاف أخيه ترى كم وكم
وبعض على واحد منتظم
تطير بأجناحها لا القدم
من الحيوان وتلك الأمم
وأوجدها بعد محض العدم
هلموا إذا كنتم ذو حِكَم
تعامى عن الحق حتى ارتطم
على زعمكم حكماً في الأمم
تخالف ذا الصنع حتى انتظم
قديم الوجود قديم الجِسَم؟
عن الأصل ما كان ثم الخرم
خرجتم إلى قولنا الملتزم
إلى فاعل واحد في القِدَم
وحي مريد بما شا حكم
إذ القصد عنها محال عدم
فَلِمْ كان فيه اختلاف الأمم؟
وضاق الخناق بكم كَالبُكَم
وأفلاكها أثرت ما ارتسم
جذمنا به أنفكم فانجذم
هي الفاعلات فقولوا نعم
ونمنعه اسماً لما لم يسم
فقد مَرَّ إبطاله وانصرم
تخالف أم لا نعيد الكلم
وإلا فغي ما اختلاف الأُمم؟
إلى غير جِدِّيَةٍ تعتصم
طريقة أهل الهدى والظلم
وبطلان برهان هذا الزعم
بخالقنا ثابت ملتزم
فصارمنا باتك إن كَلَم
لنا عاصماً عن مَزَلِّ القَدَم
شفيع الملأ يوم البعث النسم
ذوي الفضل والدين أهل الكرم(1/103)


تعالى الذي خص باسم القدم
هو الواجب الدائم الأول
وكل الملوك فملك له
وكل عزيز ذليل له
وليس له في الورى مشبه
تحير أهل النُّهى فانتهى
ولم يدركوا غير أن الذي
هو القادر العالم الحي محيي الخلا
سميع بصير خبير بهم
هو المنشِيء الخلق من نطفة
ونوعهم فاستوى صنعه
فهذا ذكور وذا ضده
بوصف له مانع لبسه
وإلا فقد يتفق وصفهم
وفي ملكوت السما عبرة
فتلك النجوم لها زينة
مُسَيَّرة في بروج لها
وفيها سراج أضاء لنا
على قَدَرٍ مشرقاً مغرباً
وفي القمر انظر فكم آية
فأوله مشبهٌ أخسراً
وتسييره ثم تقديره
وتلك الجبال لها عدة
وفيها اختلاف لأحجارها
وفيها ثمارٌ أعدت لنا
وفي البحر حوت على أصنافه
وماء السما على أنواعه
ففي الصيف مقدار حاجتنا
ومن بعد يأتي على نسقٍ
هنيئاً مريئاً إلى تارة
ومن بعد يقطعه حكمة
وفي تارة بَرَدٌ نازل
وكم في السحاب وهيئاته
وفي الريح كم تلق من عبرة
شمال بشام صبا مُشْرِقاً
وكم نعمة في وجود لها
وفي الطير كم تلق من آية
وفي كل صنف ترى نغمة
وفي بعضها كل لون أتى
وفي فيضها في السما عبرة
وفي نسلها خالفت غيرها
فسبحان من كَوَّن الكائنات
فقل لابن سينا وقل لأرسطا
أيا معشر الفيلسوف الذي
أجبنا على سؤلنا إنكم
أَعِلتكم قصدت أنها
فكيف وذا الصنع في زعمكم
وهل قصدت بعده فاخبروا
وإن قصدت قبل أوحاله
وعدتم على قولكم علة
قدير عليم بلا مرية
ففي قولكم علة فرية
وإن قلتمُ ليس قصد لها
ولما انتهى سُؤّلنا هاهنا
زعمتم عقولاً وأنفاسها
ونحن نعيد السؤال الذي
أتلك العقول وما بعدها
فواحدها كان كافٍ لنا
وإن قلتمُ موجبٌ علةٌ
وأيضاً فهل بينها عندكم
فإن كان قلنا فما شأنه
وعاد الكلام وما بعده
ولما سبرنا بأفكارنا
علمنا الصحيح ببرهانه
وصح لنا أن إيماننا
وإن نازع الفيلسوف الشقي
فحمداً لمن كان تأييده
وصلِّ وسلم ربي على
مع الآل والصحب أتباعهم(1/104)


تتمة: اعلم وفقك الله وإيانا أنا إذا علمنا أن للعالم صانعاً مختاراً، فالعلم بكونه قادراً عالما حيا موجوداً ضروري لا يحتاج إلى استدلال، لأن من المعلوم البديهي أن الفعل يستحيل ممن ليس كذلك، وقد ذهب بعض علمائنا رحمهم الله تعالى إلى أن العلم بذلك استدلالي لا ضروري، فيفردون لكل واحدة من تلك الصفات دليلاً مستقلاً، ومنهم المؤلف عليه السلام والإمام المهدي والمنصور بالله عليهم السلام والقرشي صاحب المنهاج والأول هو قول الجمهور وهو الصحيح.
وتحقيق المسألة أن يقال: إن كانت الأدلة الدالة على حدوث العالم وإثبات صانعه اقتضت أنه فاعل مختار، فلا شك أن العلم بكونه قادراً عالماً حياً موجوداً ضروري لا يحتاج إلى الاستدلال، وإن كانت إنما دلت واقتضت ثبوت مؤثر فذلك لا يقتضي العلم الضروري باتصافه بتلك الصفات فلا بد لكل واحدة منها من دليل مستقل، لكن الاستدلال على إثبات الصانع وتصدير المسألة بقولهم إثبات الصانع وقولهم في أكثر مؤلفاتهم في نهاية الكلام عليها، فثبت أن للعالم صانعاً مختا راً ينافي ذلك ويقضي أن العلم بتلك الصفات ضروري بعد تقرير أدلة إثبات الصانع المختار.
قالوا: إذا كانت الذات لا تعلم إلا استدلالاً فصفتها بالأَوْلى أن لا تعلم إلا استدلالاً، لأنه لا يمكن العلم بالذات استدلالاً والعلم بصفتها ضرورة.(1/105)

21 / 311
ع
En
A+
A-