وتعالى بشهادة غير أولي العلم، والمراد بأولي العلم به لصحة تلك الشهادة، لأن العاَلِم وإن تبحر في سائر فنون العلم مع تقصيره في هذا الفن الشريف فليست شهادته إلا كشهادة غيره من العوام بل قد يكون العامي أسلم منه لعدم إطلاعه على ما يقدح في الاعتقاد الصحيح من المذاهب المتعارضات، والتمسكات التي اعتمدها أهل الضلال، والآيات المتشابهات والأحاديث المضطربات والموضوعات وقال تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ? {فاطر:28}، وهذه الآية كالتي قبلها في أن المراد العلم بالله وما يحق له من الصفات الإثباتية والنفيية التي تنتج معها الخشية كل الخشية من الله تعالى، من أنه تعالى قادر على كل شيء، وعالم بكل شيء مع تحرير الأدلة القطعية على ذلك، ومنه ينتج العلم بالله أنه قادر على إعادة المكلَّف إلى عرصة المحشر، وعالم بجميع أعماله، وأنه صادق فيما أخبر به على ألسنة رسله وأنبيائه وسائر حججه على خلقه من الثواب لمن أطاع والعقاب لمن عصى، وأنه عدل لا يكذب ولا يعذب أحداً إلا بذنبه، ولا يثيبه إلا بعمله، وأنه حكيم لا يخلق الفساد ولا يريده من العباد، وأنه لا شفاعة ولا ناصر ولا مفر لأعداء الله منه، فعند العلم بجميع ذلك تحصل الخشية من الله تعالى، وتتفاوت الخشية على قدر تفاوت العلم وقوته وضعفه بتلك المعارف وما يدل عليها، وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى بل صرح فيما أخرجه الإمام الموفق بالله عليه السلام عن أنس قال صلى الله عليه وآله وسلم لما جاءه سائل قال: يا نبي الله علمني غرائب العلم قال: " أعلمك رأس العلم خير لك، تعرف الله حق معرفته، وتستعد للموت قبل نزوله، فقال زدني؛ فقال: حسبك إن عرفت الله حق معرفته لم تعصه "، وأخرج ولده الإمام المرشد بالله عليهما السلام والحافظ بن عقدة رحمه الله تعالى عن علي عليه السلام في قوله تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(1/6)


?، قال أعلم الناس بالله أشدهم خشية، وأخرجا أيضاً عن زيد بن علي عليهما السلام في قوله تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ?، قال: على قدر منازلهم في العلم بالله شدة خشيتهم، وأخرج الدارمي في مسنده عن عطاء قال: " قال موسى يا رب أي عبادك أغنى؟ قال: أرضاهم بما قسمت له ؛ قال: يا رب أي عبادك أحكم ؟ قال: الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه ؛ قال أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم بي ".(1/7)


فصل في فضل علم الكلام
دل ذلك على فضل هذا العلم وشرفه على سائر العلوم، وقد استدل على فضله بوجوه أخرى:
أحدها: أن العلم يشرف بشرف معلومه، ولا أشرف من معلوم هذا العلم لأن معلومه هو الله تعالى وعدله، وحكمته، وأنبيائه، ووعده، ووعيده.
ثانيها: عظم نفعه، ولا نفع أعظم من نفع هذا العلم.
ثالثها: عظم الخطر في الجهل به، ولا أعظم خطراً من الجهل بالله تعالى وأنبيائه ونحو ذلك.
ورابعها: خساسة ضده، ولا أخس من الجهل بالله تعالى ونحو ذلك.
خامسها: استغنائه عن سائر العلوم وافتقار سائر العلوم إليه.
ولا شك أن هذا العلم لا يحتاج إلى غيره من سائر العلوم، فأما هي فإنها تحتاج إلى هذا العلم احتياج الفرع إلى ثبوت أصله، لأنها إنما احتيج إلى معرفتها ليتمكن المكلَّف بمعرفتها من معرفة الأحكام الشرعية، ولا يحسن الكلام في الأحكام الشرعية إلا بعد معرفة الشارع وصدق المبلغ، دليله إجماع الأمة على عدم صحة عبادة الكافر حتى يسلم لأنه مخاطب بما هو أهم وهو الإسلام المتضمن للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وصدق المعاد وما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة كالواجبات والمحرمات القطعية، قال السيد الهادي عليه السلام : فصارت منزلة هذا العلم من سائر العلوم بمنزلة الإمام من المؤتمين من حيث أنه حاكم على جميعهم ولا يحكم عليه أحد منهم.
قلت: ولله در السيد يحيى بن منصور العفيف رحمه الله تعالى حيث يقول:(1/8)


إذا كان تقديم الأصول فريضة .... وكان بها التفضيل أقرب للحصول
فتقديمها في العقل أول واجبٍ .... وتقديمنا للفرع من سفه العقول
فدونك إثرها لتنجو بها غداً .... وتعرف ذا العلم الصحيح من الجهول
ولا تؤثرن الفرع قبل أصوله .... فيشغلك تطويل الفروع عن الوصول
وتصبح في بحر من اللبس واسع .... تود زوال الشك يوماً فلا يزول
وحسبك فيما قلت أحمد قدوة .... فلم يؤثر المختار شيئاً سوى الأصول
ولم يك بالإجماع للخلق داعياً .... إلى غيره مما تفرع من مقول
وحسبك هذا إن جهلت سبيله .... عدول بنيه الطيبين بني البتول
هُمُ معدن الفتوى وهم معدن الهدى .... وهم باب سلم في الحديث عن الرسول
وهم وارث علم الكتاب وأهله .... بنص كتاب الله فاسمع لما نقول
ولا تَيْقَنَن مهما يَقِنْت بغيرهم .... فكل امرء يوم الحساب لهم سئول
ومن مال منهم فالخليفة غيره .... فما قال خير الناس كلهم عدول
وهذا على وجه النصيحة ما أرى .... وأنت على التخيير في الترك والقبول
تنبيه: لا بد لطالب كل فن من معرفة حدِّه، وموضوعه، وغايته، فلنذكر هذه الأمور الثلاثة لهذا العلم الشريف المسمى: علم الكلام، ولِمَ سمي علم الكلام ؟(1/9)


حد علم الكلام
أما حدُّه: فهو علم بأصول يتوصل بها إلى معرفة الله تعالى وتوحيده وعدله، وما يترتب عليهما، فقولنا: علم، جنس الحد ؛ وقولنا: بأصول، خرج به علم الفروع وعلم العربية ونحوهما ؛ وقولنا: يتوصل بها إلى آخره، خرج بذلك علم أصول الفقه وأصول الشرائع ؛ ونعني بالأصول هاهنا القواعد الكلية والقوانين العقلية، كقولنا: القديم قديم بذاته بمعنى أنه لا يحتاج إلى غيره يجعله قديماً، والمحدَث يحتاج إلى مُحدِث والشيء لا يُحدِث نفسه، والضدان لا يجتمعان، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والمختلفان يصح فيهما الاجتماع والارتفاع، والمثلان يسد كل واحد منهما مسد الآخر، والجسم يقوم بنفسه لا يخلو عن العرض ولا بد له من حيز يكون فيه ويجوز عليه التجزيء والانقسام ويستحيل عليه الكون في جهتين في وقت واحد، والعرض لا يقوم بنفسه فلا بد له من جسم يقوم به، وما حله المحدَث فهو محدَث مثله، إلى غير ذلك من القواعد الكلية التي لا تنتقض أصلاً، والقوانين العقلية التي تعرف صحة كل شيء أو فساده برده إليها، وقولنا: وما يترتب عليهما، نريد به إدخال مسائل النبوة والإمامة والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والشفاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحوال المعاد إلى غير ذلك مما يذكر في هذا الفن ؛ قال القاضي العلامة أحمد بن يحيى حابس رحمه الله تعالى: ونعني بالترتيب الترتيب الأخص بحيث لا يصير أحدهما أصلا والثاني فرعاً، فلا يرد دخول مسائل الشرع الفرعية في قيد الترتيب.
قلت: وفي تفسيره الترتيب الأخص بقوله: بحيث لا يصير أحدهما أصلاً والثاني فرعاً، نظر، إذ من المعلوم أن العدل والتوحيد أصلان يتفرع عليهما جميع ما ذكر، فالقياس تفسير الترتيب الأخص اللازم باللزوم عنهما لزوماً أولياً بحيث يشاركهما في وجوب الاعتقاد والتصديق، ويصير الجميع أصولاً يجب معرفة كل واحد منها على حدته.(1/10)

2 / 311
ع
En
A+
A-