بحث في تحرير دليل الاختلاف
قال شيخنا صفي الإسلام رحمه الله تعالى في حاشيته مشيراً إلى اختصار هذا الدليل وإيضاحه ما لفظه: وحاصل هذا الدليل الذي يسمى دليل الاختلاف أن يقال: إنا وجدنا الأجسام مشتركة في الجسمية مختلفة في الصور والهيئات وكذلك الأعراض، فاختلافها لا يخلو إما أن يكون لذواتها أو لغيرها، الأول باطل لأن الشيء لا يوجد نفسه حتى يوجد ولا يوجد حتى توجد نفسه فيقف وجوده على إيجاد نفسه على الاختلاف، بقي أن يكون لغيرها والغير لا يخلو إما أن يكون موجباً أو مختاراً، الأول باطل لأنه لا يخلو إما أن يكون معدوماً أو موجوداً، باطل أن يكون معدوماً لأن العدم لا تأثير له فيبقى العالم لا مؤثر فيه، وإن كان موجوداً فلا يخلو إما أن يكون علة قديمة أو محدثة، إن كانت قديمة فمعلولها مقارن لها فيستغني عنها لقدمه لأن القديم لا يحتاج إلى مؤثر، وإن كانت محدثة فلا يخلو إما أن تكون مماثلة أو مخالفة، الأول يلزم أن يكون معلولها مماثلاً وفي علمنا باختلافه بطلانه، والثاني يلزم أنها قد شاركت العالم في العلة إلى احتياج مخالف سببها فيتسلسل، وإن كان لفاعل مختار فهو الذي نقول انتهى.
وقال المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهما السلام في معنى هذا ما لفظه: وإن قالوا: إن العلل مختلفة قلنا: لم اختلفت العلل الأخرى أدى إلى ما لا يتناها من العلل أم لفاعل فيجب الاقتصار هنا قال: وإن قيل: لم خالف بينها أي بين أصناف العالم. قلنا: لما يعلم من المصلحة هو بمصالح عباده أعلم. انتهى كلامه عليه السلام .(1/86)


دليل الدعاوى على حدوث العالم عند الزيدية
واعلم أن كثيراً من أصحابنا يعتمدون في الاستدلال على حدوث العالم على دليل الدعاوى، وهو مبني على أربع دعاوى متى ثبتت كل واحدة منها بالبرهان اليقين أوالعلم الضروري نتج من الجميع العلم بحدوث العَالَم، والكلام فيها مبسوط في المطولات كغايات الأفكار للإمام المهدي عليه السلام ، ومنهاج القرشي من الزيدية رحمه الله تعالى، وغيرهما من البسائط، ولكن لعظم فائدته وخشية التطويل نذكره على سبيل الاختصار، وبعض المؤلفين يعبر عن تلك الدعاوى بأصول فيقول: الأصل الأول الأصل الثاني، وبعضهم بلفظ الدعاوى فيقول الدعوى الأولى الدعوى الثانية، والكل مستقيم لأن الكلام في المسألة من حيث أنه خبر عن معتقد المؤلف ومن هو على معتقده دعوى حتى يقام برهانها، ثم إذا أقيم برهانها صارت أصلاً إذا كان يتوصل بذلك القول إلى العلم بالمسألة المطلوبة بالأصالة.
الدعوى الأولى: أن في الأجسام أعراضاً هي غيرها.
وقد عرفت حقيقة الجسم، وحقيقة العرض بما مر، وهذا أمر معلوم بأدنى تأمل إن لم يكن معلوماً ضرورة، فإنا نفرق بين الجسم المتحرك والجسم الساكن، ونعلم ضرورة أن في أحدهما وصف خلاف وصف الآخر، وهو العرض الذي هو الحركة في أحدهما والسكون في الآخر وإلا لما علم بينهما فرق وذلك سفسطة وجهالة وإنكار لما تعلمه النفس ضرورة، فثبتت الدعوى الأولى وصارت أصلاً ينبني عليها ما بعدها كما ترى.
الدعوى الثانية: أن تلك الأعراض محدثة.
وهذا أيضاً معلوم لأن الحركة تحدث في الجسم بعد أن لم تكن فيه وتعدَم، ثم يحدث السكون وتعدم الحركة، وما صح عليه الوجود بعد العدم والعدم بعد الوجود فهو المحدث.
الدعوى الثالثة: أن الجسم لم يخل من الأعراض ولم يتقدمها.(1/87)


وهذا أيضاً معلوم بأدنى تأمل إن لم يكن معلوماً ضرورة لأنا نعلم أنه لا يصح وجود جسم ليس بمتحرك ولا ساكن، وكذلك لا يصح وجود جسمين ليسا مجتمعين ولا مفترقين، فإن هذه الأكوان الأربعة التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق لا يصح خلو أي جسم منها لكن الأولين يتعلقان بكل جسم بالنظر إلى ذاته وحده، والأخيرين يتعلقان بكل جسم بالنظر إلى جسم آخر، ولا يعقلا في الجسم الواحد إلا باعتبار أجزائه إلى عند الجوهر الفرد، وأما سائر الأعراض فقد يكون لها هذا الحكم - أعني عدم خلو الجسم عنها كالألوان - وقد لا يكون لها هذا الحكم كالطعوم والروائح، وقد يكون بعضها خاص بالحيوان كالحياة والموت والشهوة والنفرة والألم والأصوات،وقد يكون بعضها خاصاً بالإنسان كالضحك والبكاء، وبعضها بالعقلاء فقط كالظنون والأفكار وكلها دالة على حدوث ما قامت به، إلا أنه لما كانت الأربعة الأُول وهي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق تعم كل الأجسام السماوات والأرض وما فيهما وكان قيامها بالأجسام كلها على سبيل النقيضين الذين يستحيل ارتفاعهما معاً واجتماعهما معاً كانت هي المتداولة في ألْسِنَةِ المتكلمين ويعبر عنها بالأكوان الأربعة وإلا فكلها صالحة للاستدلال على حدوث العالم، لكن الأخص لا يدل على حدوث الأعم لعدم تناوله إياه كالضحك والبكاء مثلاً، فلا يدلان على حدوث ما سوى الإنسان ونحو ذلك.
الدعوى الرابعة: أن كل ما لم يخل من المحدث ولم يتقدمه في الوجود فهو محدث مثله.(1/88)


وهذا أيضاً معلوم بأدنى تأمل إن لم يكن معلوما ضرورة، وتحقيقه إنه إذا علمنا ملازمة شيء لشيء آخر بحيث تَيَقَّنَّاً أنه لم يفارقه في الوجود لحظة واحدة، فإنا نعلم إنما وقع على أحدهما من إيجاد أو إعدام وقع على الآخر كذلك، وقد مثله الإمام المهدي عليه السلام بالتوأمين، فإنا إذا أرَّخْنا ولادة أحدهما وأغفلنا تاريخ الآخر ثم مضت بُرهَةٌ من الزمان، فإنا إذا أردنا معرفة عمر الآخر نظرنا في تاريخ ولادة المؤرَّخ ولادَتَه فنعلم يقيناً كمِيّة عمر الآخر ما داما حيين.(1/89)


رد الفلاسفة على دليل الدعاوى
وقد خالفت الفلاسفة المدعون قِدَم العَالَم في ذلك وهو القول بحدوث الأجسام وأرادوا مناقضة الدليل المذكور بما لا يجدي نفعاً بل يعود إلى المكابرة وإنكار الضرورة، فبعضهم ذهب إلى إنكار الدعوى الأولى وهي وجود الأعراض وذلك مكابرة، وبعضهم لم يسعه إنكارها لما كانت معلومة بما يقرب من الضرورة فأقر بوجودها وادعى قِدَمَها وقال: إن اختلافها على الجسم هو على سبيل الكمون والظهور لا على سبيل الحدوث والعدم، فمتى سكن الجسم كمنت الحركة واختَبَأَت فيه لا أَنها عدمت بالمرة، ومتى احترك الجسم كمن السكون فيه لا أنه عدم بالمرة، فالحركة والسكون قديمان موجودان في كل جسم على سبيل الظهور والخفاء لا على سبيل الحدوث والعدم.(1/90)

18 / 311
ع
En
A+
A-