أن المحدِث هو الفاعل المختار سبحانه وتعالى
وأما الأصل الرابع: وهو أن محدثها ليس إلا الفاعل المختار.
فالكلام فيه يقع في طرفين: إحداهما: في إبطال ما يزعمه أهل الإلحاد من التأثير لغير الفاعل المختار. وثانيهما: أنه إذا بطل القول بها جميعها لزم صحة القول بأن المحدث لها ليس إلا الفاعل المختار.
أما الطرف الأول: فقد أشار إليه عليه السلام بقوله [ ولا يقع ذلك ] الإيجاد لأصناف العالم واختلاف صوره وهيئاته [ بشيء مما ] يزعمه [ و ] يقوله [ الجاهلون ] بالله تعالى وصفاته وعدله وحكمته [ من طَبْعٍ ] كما تقوله الطبائعية [ أو مادة ] كقول بعض الفلاسفة، فإنهم يقولون: إن بين الماء والتراب مادة تتولد منها النباتات والأشجار والأثمار [ أو فلك ] وهو مدار الكواكب وهو جسم لطيف وهو الدائرة بين الدائرتين في محلات السماوات وما بين بعضها بعضاً من الفضاء [ أو نجم ] كما تقوله المنجمة [ أو علة ] وهي المؤثر لا على سبيل الإرادة والاختيار بل على سبيل الإيجاب والاضطراب وهو قول جمهور الفلاسفة [ أو عقل ] وهو العقل الفعال بزعمهم كما مر حكاية ذلك عنهم [ أو روح ] يعنون به روح الفلك [ أو نفس ] يعنون نفس الفلك، والظاهر أن هذه الأقوال واحدة لأن مرجعها إلى القول بالعلة القديمة وإنما يرجع ذلك إلى التفصيل عندهم هل حدث التأثير عنها أو عما ذكر بعدها، وقد مر حكاية هذه الأقوال مفصلة في أول الكلام على هذه المسألة، وإنما المراد ههنا معرفة إبطال جميع تلك الأقوال المنهارة والزعم المتكاذبة المتنافرة.(1/81)


وقوله عليه السلام: [ أو غير ذلك مما يقولونه ] إشارة إلى سائر الأقوال الباطلة والملل العاطلة كقول الثنوية والمجوس كما مر في حكاية أقوالهم، وكذلك كل من لم يقل بأن التأثير في العالم هو فعل الصانع المختار وأسند التأثير إلى غيره تعالى، فإن جميع ما عداه باطل لما أشار إليه عليه السلام بقوله: [ لأن ذلك ] الذي زعموه مؤثراً كله لا يخلو إما أن يكون من قبيل تأثير الإيجاب والاضطرار وهو حصول المؤثَّر بالفتح عن المؤَثِّر بالكسر بلا إرادة ولا اختيار ولا إمكان للانفكاك عنه كما في كسر الحجر الزجاج، وتأثير النار في الإحراق، وسقوط الجسم الكثيف من أعلى إلى أسفل أو من قبيل تأثير الاختيار والاقتدار وإمكان الانفكاك بأن كان على وجه إن شاء فعل وإن شاء ترك [ إن كان من قبيل المُوجَبَات ] فهو باطل، لأنها [ لم تخل ] تلك المؤثرات التي زعموها من [ أن تكون موجودة أو معدومة ] ولا واسطة بينها يمكن أن ينصرفوا إليها، والأول [ و ] هو [ الموجودة ] يقال فيها: [ لا تخلو ] إما [ أن تكون قديمة ] لا أول لوجودها [ أو ] تكون [ مُحْدَثَة ] بأن كان لوجودها أول، فقد خرج من هذا التقسيم ثلاثة أقسام وهي الأول بأن تلك المؤثرات معدومة، والثاني: القول بأنها موجودة قديمة، والثالث: القول بأنها موجودة محدثة، فإن قيل بأحد القولين الأولين فهو باطل بما ذكره عليه السلام بقوله: [ ولا يجوز ثبوت ذلك ] الإحداث والاختلاف [ لِعِلَّةٍ متقدمة ولا ] لعلة [ معدومة، لأنه لو كان ] لعلة قديمة [ كما زعموا ] أو كان لعلة معدومة على الفرض لو قال به قائل وإلا فلا قائل به، فكلا القولين باطل، لأنه [ كان يلزم ] من كل واحد منهما [ وجود العالم بما فيه ] من الاختلافات والمتولدات، والحيوانات، والأموات، والجمادات وجميع الأثمار والأشجار، وجميع الحوادث اليومية من نزول الأمطار، وكل ما أتى به الليل والنهار كل ذلك كان يلزم وجوده [ في الأزل ] وهو ما لا أول له،(1/82)


فتكون هذه الأشياء كلها موجودة بما لا أول له وهو معلوم البطلان، لأنا نرى كثيراً منها تحدث بعد أن لم تكن كنزول الأمطار والثمار ونبات الأشجار وجميع الحيوانات، [ و ] أيضاً فهو باطل من وجه آخر وهو أن [ في ذلك ] القول بأنه لعلة قديمة أو لعلة معدومة [ استغناؤه عن ] تلك العلة وغيرها عن [ تلك العلل. ]
قال شيخنا صفي الإسلام رحمه الله تعالى: يعني إن كانت معدومة فهي كلا علة فقد وجد في الأزل بلا شيء، وإن كانت قديمة فمعلولها قديم والقديم مستغن عن العلة، فلزم وجود العالم وجميع الحوادث في الأزل، واستغناؤه عن جميع المؤثرات والعلل إذا كان لعلة أو لعلل قديمة أو معدومة، وإن قيل بالثالث وهو أنه لعلة أو لعلل محدثة فقد أشار عليه السلام إلى ذلك بقوله: [ ولا يجوز أن يكون ثبوت ذلك ] العالم بما فيه من الاختلاف [ لِعِلَّة ] واحدة أو لعلل [ محدثة ] لأنها تكون كلها مفتقرة إلى محدِث، و [ لأنها لا تخلو ] في نفسها [ إما أن يكون ] واقعاً حدوثها دفعة واحدة لزم وجود العالم بما فيه، كذلك وقد علمنا في كثير منه أنه يحدث شيئاً بعد شيء كنزول الأمطار وحصول الثمار والحيوانات، وإما أن يكون واقعاً حدوثها شيئاً بعد شيء، فلا يخلو إما تأخر حدوثه من تلك العلة أو العلل إما أن تكون في ذاتها [ مماثلة لما تقدم ] منها [ أو مخالفة ] له، [ إن كانت مماثلة ] لما تقدم منها [ وجب وجود مَعْلُولِها ] وهو العالَم بما فيه من جميع أصناف العالم[ متماثلاً ] ولا يصح اختلافه في شيء أصلاً، لأن شأن المثلين المؤثرين على سبيل الإيجاب أن لا يختلف أثرهما لما كان مثلين كالنارين والحجرين كل منهما يؤثر الإحراق لا غيره، والكسر للزجاج لا غيره، وكذلك جميع المقتضيات عن المتماثلات كالتحيز وجواز التجزي والانقسام في جميع الأقسام، فلو قيل: إن المؤثر في العالم وجميع ما فيه من الاختلاف هو علة أو علل متماثلة لزم عدم اختلافه، [ وفي علمنا باختلاف ذلك العالم(1/83)


دَلاَلَةٌ على بطلان القول بأنه ] حاصل [ عن علة ] مماثلة لما تقدم منها [ أو عن علل متماثلة ] فيما بينها أي فيما بين المتقدمات والمتأخرات والحاصلات دفعة، فكان يلزم أن لا يوجد اختلاف بين اثنين رأساً، فلا تتميز بعض الأشياء عن بعض، ولا يختص بعضها بجهة دون جهة، ولا بزمن دون زمن، ولا الكبير منها بأن يكون كبيراً أو أكبر، ولا الصغير منها بأن يكون صغيراً أو أصغر بأولى من العكس، ولا الأبيض أبيضاً ولا الأسود أسوداً بأولى من العكس، وكذلك جميع الصفات الجائزة على الأجسام والأعراض كالحياة والموت والذكورة والأنوثة والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والزيادة والنقصان والعدم والبطلان، هذا إذا قيل: إن العالم حاصل عن علة أوعلل متماثلة، [ و ] إن قيل: إن حصوله واختلافه لعلة أو لعلل مختلفة، فكذلك [ لا يصح أن يكون ] ذلك [ لعلة مخالفة ] لما تقدم منها [ ولا لعلل مخالفة ] بعضها لبعض، [ لأنها حينئذ ] أي حين حصولها مختلفة [ تكون قد شاركت العالم في الاختلاف الذي لأجله احتاج إليها ] لأن العالم إنما احتاج إلى هذه العلل عند القائلين بها لأجل اختلافه، فإذا كانت هذه العلل مختلفة في نفسها، فلا شك أن تحتاج هي إلى مخالف، فأما نفسها وهو محال لما تقدم، وإما غيرها فإما علل متماثلة لزم تماثل العالم فيما بينه وهو معلوم البطلان، وإما متخالفة احتاجت إلى علل أُخر [ فيدور الكلام ] أو يتسلسل [ إلى ما لا يعقل ولا يَنْحَصِر من العِلَل ] إما لزوم الدور، فحيث يقال المؤثر في العلل المذكورة في المرتبة الثانية فما بعدها هي العلل المذكورة في المرتبة الأولى، وإما لزوم التسلسل فحيث يقال المؤثر في العلل المذكورة في المرتبة الثانية هي العلل المذكورة في المرتبة الثالثة، والعلل المذكورة في المرتبة الثالثة هي علل في مرتبة رابعة ثم خامسة ثم كذلك إلى ما لا نهاية له، فيتوقف وجود العالم على وجود ما لا نهاية له في جانب الدور أو جانب(1/84)


التسلسل،وإنما لم يذكر المؤلف عليه السلام التسلسل صراحة لدخوله ضمناً في قوله: ولا ينحصر من العلل، فإذا كان يلزم توقف وجود العالم على وجود ما لا يعقل ولا ينحصر من العلل لزم الحكم بعدم وجوده حتى يوجد ما تعلق وجوده عليه، وتوقف على وجوده وهي العلل الموصوفة بالوصف المذكور من الدور أو التسلسل، ووجودها على ذلك الوصف مستحيل، وما توقف وجوده على المستحيل استحال وجوده فصار وجود العالم على هذه الكيفية مستحيل، وقد علمنا وجوده فيلزم أن وجوده كان لا على هذه الكيفية، فإما أن يخرج عن هذه الكيفية إلى كيفية مثلها في كونها مستحيلة بأن يقال بقطع لزوم الدور والتسلسل بفرض أنه -أي العالم- وما فيه من الاختلاف موجود لعلة موجودة من ذاتها لا من غيرها بأن تكون قديمة كما يقوله الخصم، فلا ثمرة في الخروج عن المستحيل إلى القول بمستحيل آخر لأنه كما يستحيل ما أدى إلى الدور والتسلسل، كذلك يستحيل اختلاف الأثر عن العلة المتحدة، فإن كانت مختلفة رجعنا إلى ما خرجنا عنه وهو لزوم الدور أو التسلسل، وإما أن يخرج من هذه الكيفية إلى كيفية ممكنة بأن يُقَدَّر في هذه العلة وقوع الاختيار والمشيئة ويسلب عنها الإيجاب والاضطرار قلنا: فيلزم رفع تلك التسمية وهو قولهم العلة لارتفاع المعنى الذي وضعت له وهو الإيجاب والاضطرار وتبدل عنها التسمية الموضوعة للمعنى المقابل للإيجاب والاضطرار وهو الإرادة والاختيار فيقال فاعل مختار، [ فيجب الاقتصار على ] ذلك لأنه [ المُحَقَّقِ المعلوم. ].(1/85)

17 / 311
ع
En
A+
A-