السلام في كتاب الدليل الكبير ما لفظه: وهذا الباب من خلافه سبحانه أي مخالفته لأجزاء الأشياء كلها فيما يدرك من فروع الأشياء جميعاً وأصولها مما لا يوجد أبداً إلا بين الأشياء وبينه ولا يوصف بها أبداً غيره يعني عليه السلام أن الاختلاف العام من كل وجوهه لا يوجد إلا فيما بين الله تعالى وبين جميع الأشياء، قال عليه السلام : وهي الصفة التي لا يشاركه فيها مشارك، ولا يملكها عليه مالك، ولا يعم الأشياء اختلاف عمومه، ولا يصحح الألباب إلا الله معلومه لأنه وإن وقع بين الأشياء ما يقع من الاختلاف فليس يوجد واقعاً إلا بين ذوات الأوصاف، وكل واحد منها وإن خالف غيره في صفة فقد يوافقه في صفة أخرى سواء كان مما يعقل أو كان مما يلمس، ويرى انتهى كلامه والمسك ختامه.
فثبت بطلان هذا السؤال وعدم قدحه في الاستدلال وبقي أن يقال: فقولكم: إنه تعالى شيء، يوجب الاشتراك بينه وبين سائر الأشياء في الشيئية.(1/76)


هل يجوز اطلاق شيء على الله تعالى؟
فجوابه: أن الشيئية ليست إلا وضع لغوي يعبر به عن كون من أطلقت عليه معلوماً ثابتاً ولذلك اختلف في إطلاقه على المعدوم المعلوم، وليس ذلك وصفاً ولا معنى يقوم بمن أطلق عليه حتى يلزم الاشتراك في الذوات التي أطلق عليها لفظ الشيء، ولا في شيء من صفاتها فتأمل، على أن كثيراً من أئمتنا عليهم السلام لا يجوزون إطلاق لفظ شيء على الله تعالى إلا مع قيد لا كالأشياء تحاشياً وفراراً من لزوم المشابهة بينه تعالى وبين سائر الأشياء، واعلم أن التماثل والتشابه يستلزمان حدوث كلي المتماثلين والمتشابهين، وأما الاختلاف فلا يستلزم إلا حدوث أحد المختلفين كالقديم والمحدث ما لم يكن قد جمعتهما صفة ذاتية كالجسمية والحيوانية والإنسانية والعرضية، لأنه يكفي في حصول حقيقة الاختلاف وقوع التأثر في إحدى الجنبتين دون الأخرى كالمحدث والقديم، وأما التماثل والتشابه فلا بد من وقوع التأثر في كلي الجنبتين جميعاً، فمن ثمة يقال: ليس لله مثيل وليس لله شبيه، ولا يقال: ليس لله مخالف، وأما التناقض والتضاد، فتارة يستلزمان حدوث الجنبتين معاً كمقابلة الصفات المتنافية الجائزة بعضها ببعض كالحرارة والبرودة والحياة والموت وكالألوان والطعوم، وتارة يستلزمان حدوث إحدى الجنبتين فقط كمقابلة المحدث بالقديم، وتارة لا يستلزمان حدوث أحدهما كمقابلة القديم بالمعدوم.(1/77)


أن المُحْدَثْ لا بد له من مُحْدِثْ
وأما الطرف الثاني: وهو أن المحدَث لا بد له من محدِث.
فقد اختلف علماؤنا رحمهم الله تعالى في العلم بذلك، فقيل: إن العلم بذلك ضروري لا يحتاج إلى نظر واستدلال وهو قول بعض أئمتنا عليهم السلام وأبي القاسم البلخي وأبي الحسين والشيخ محمود وغيرهم، وقيل: بل العلم بذلك استدلالي وهو قول الإمام المهدي عليه السلام وبعض المعتزلة، والأول هو الصحيح لأنه قد عد من علوم العقل العشرة الضرورية، قال الإمام يحيى عليه السلام : من وجد بناءً في فلاة فإنه يعلم أن له بانٍ ضرورة.
قلت: والأظهر والله أعلم أن أهل القول الثاني إنما أرادوا بذلك في الغائب فقط، فأما الشاهد فلا نتصور مخالفتهم فيه لأنهم يقيسون احتياج فعل الغائب إليه على احتياج فعل الشاهد إليه وإلا لجاز عندهم وجود دار مبنية على أكمل البناء ووجود سفينة بجميع آلاتها، وصيغ حلية من الذهب والفضة بلا فاعل، وهذا هَوَسٌ ونوع من الجنون:
بناء بلا بانٍ له وكتابة .... بلا كاتبٍ أين العقول التي تدري؟
قال النجري رحمه الله تعالى ناقلاً عن بعض الأصحاب: ينبغي أن يُفَصَّل، فيقال: إن علم أن المحدث حدث مع الجواز بالضرورة كأفعالنا فالعلم بأن له محدثاً ضروري كما يقول أبو القاسم، وإن لم يعلم حدوثه مع الجواز بالضرورة فالعلم به استدلالي كحدوث العالم وكحدوث المسببات ومن ثمة أمكن فيها الخلاف قال: وهذا التفصيل هو الأقرب إلى أصول أصحابنا وهو المأخوذ من قواعدهم وهو مختار الإمام عليه السلام .
قلت: وهذا يفهم مما سيأتي من استدلال المؤلف عليه السلام في إثبات صانع العالم تعالى، وإبطال المؤثرات التي زعمها أهل الإلحاد فتأمل والله أعلم، فهذا الكلام في الأصل الثاني.(1/78)


أن المحدِث غير المحدَث
وأما الأصل الثالث: وهو أن محدثها غيرها.
فقد أشار إليه عليه السلام بقوله [ وأنه غَيرٌ لها ]، وحقيقة الغيرين: هما كل معلومين ليس أحدهما هو الآخر ولا بعضه، قلنا: كل معلومين، جنس الحد، وقلنا: ليس أحدهما هو الآخر، تخرج به الألفاظ المترادفة، فإن اللفظين المترادفين معلومان ولكن أحدهما هو الآخر فليسا غيرين، وقلنا: ولا بعضه، يخرج الخاص الداخل تحت العام كالإنسان بالنسبة إلى الحيوان فلا يقال هو هو لتناول الحيوان ما لا يتناوله الإنسان كالفرس، ولا يقال: هو غيره للزوم أن الإنسان ليس بحيوان، وقالت المجبرة: بل حقيقة الغيرين ما يصح وجود أحدهما دون الآخر، وهذا باطل منقوض بالجسم والعرض وبالجسم والتحيز، وبمذهبهم في خلق الله تعالى أفعال العباد والكسب الذي يزعموه ويسندوه إلى الإنسان، فإن كل ذلك لا يصح وجوده دون الآخر، فيلزمهم أن لا تغاير بين الجسم والعرض وبين الجسم والتحيز وبين خلق الله تعالى فعل العبد وكسبه، وهذه إحدى مغالطاتهم في الأوضاع اللغوية وتحريف الكلم عن مواضعه قاتلهم الله، ومرامهم التوصل بذلك إلى دفع ما ألزمهم أئمتنا عليهم السلام وأتباعهم في إثباتهم المعاني القديمة أن يكون أغيار الله تعالى ولا قديم غير الله تعالى فاحتالوا في دفع ذلك الإلزام بأن قالوا: ليست أغيار الله تعالى لأن الغيرين ما يصح وجود أحدهما دون الآخر ولا يصح وجود هذه المعاني من دون وجود الباري تعالى ولا وجوده من دونها، وهو باطل بما عرفت من نقض هذا الحد، وإنما قلنا: إن مُحدث هذه الأجسام والأعراض غيرها [ لأنها لا تُحْدِثُ نفسَها، إذ الشيء لا يُحْدِثُ نفسَه، لأنه يؤدي ] هذا القول، وهو أن الشيء يصح أن يحدث نفسه أو يعدم نفسه عدماً محضاً إلى القول بالمحال وهو باطل ضرورة، وما أدى إلى الباطل فهو بالإبطال أولى، وهذا القول يؤدي إلى المحال من جهتين:(1/79)


إحداهما: [ أن يكون ] ذلك الشيء موجوداً [ قبل ] وجود [ نفسه ] وذلك محال لا يعقل، لأنه يؤدي إلى أن تكون نفسه معدومة ليصح إيجادها، لأن تحصيل الحاصل محال، وأن تكون موجودة لأن الفعل من غير الموجود محال أيضاً، فلو قيل: إنها أحدثت نفسها، للزم أنها قبل أن تُحدث نفسها موجودة معدومة في حالة واحدة وهو محال.
وثانيهما: أي ثاني وجهي الإحالة أنه يلزم إذا كان الشيء هو الذي أحدث نفسه أن يكون غَيراً لها لما يعلم ضرورة أن المصنوع غير الصانع، والمحدَث غير المحدِث، فيؤدي القول بأنها أحدثت نفسها لو قيل به وإلا فلا قائل به إلى القول بأن الشيء غير نفسه وذاته وبطلان ذلك ضروري فلم يبق إلا القول بأن محدثها غيرها، ولم يكن هو إياها ولا بعضها، وكما أنه لا يصح أن تُحدث هذه الأجسام والأعراض أنفسها، فكذلك لا يصح أن تصور نفسها وتخالف بين هيئاتها، بل ذلك من أمحل المحال وأقبح المقال لتأديته إلى أحد باطلين، إما وجودها أولاً قبل صورها وهيئاتها وألوانها وذلك محال، لأنا قد علمنا أنه لا يصح انفكاك الجسم وخروجه عن الصور والهيئات والألوان، وأما وجودها مُقارِن لوجود الأعراض التي هي الصور ونحوها، فليس دعوى تأثير أحدهما في الآخر بأولى من العكس، وأيَّما ادُّعِيَ تأثيره في الآخر فهو محال، لأنه تحصيل حاصل أو يكون وجود الأجسام متأخر عن وجود الصور والألوان والهيئات فهو أدخل في الإحالة، لأن وجود الصفة قبل الموصوف بها محال ضرورة، فثبت الأصل الثالث وهو أن محدثها غيرها.(1/80)

16 / 311
ع
En
A+
A-