الرزق
[ يقطع الرزق ] وهو ما يصح الانتفاع به من دون حصر كالمآكل والمشارب والمشمومات والملبوسات وكالعبيد والأولاد والأزواج يقال: رزقه الله ولداً صالحاً وزوجة صالحة، وقلنا: من دون حصر، إشارة إلى خلاف المجبرة فإنهم يطلقون الرزق على ما وقع به الانتفاع ولو كان الانتفاع بالمال الحرام فإنه رزق عندهم قلنا: يلزم أن لا يلام من تناوله ولا يذم على ذلك فيلزم رفع العقاب، وحد السارق لأن استحقاق العقاب متفرعاً على صحة الذم، وأيضاً نهى الله تعالى عن تناوله، والحكيم لا ينهى عما رزق خلقه أن يتناولوه، ولا يخفى أن الاحتجاج عليهم بما ذكر مع قولهم بالجبر وأنه تعالى لا يقبح منه قبيح مما لا يسلموا صحته لكن ذلك الاحتجاج معلوم بلا شك:
الأول: وهو استحقاق متناول الحرام الذم وملازمته استحقاق العقاب عقلي.
والثاني: مركب من قضيتين:
إحداهما: معلوم من الدين ضرورة، وهي أن الله تعالى نهى عن تناول الحرام.
والثانية: وهي أن الحكيم لا ينهى عن تناول عباده ما رزقهم معلومة عقلاً.
فإذا كان هذان الدليلين معلومين يقينيين لزم منهما بطلان الجبر من أصله، وهذه إحدى مفاسد الجبر وفواقره التي أضرت بالدين والدنيا، وكان موضع هذه المسألة عند الكلام على مسائل العدل لكنا ذكرنا ذلك استطراداً ملاحظة لخدمة ألفاظ المختصر، وفيما ذكره عليه السلام إشارة إلى قول أمير المؤمنين عليه السلام : الروح شيء من ملكه أودعه في مِلكه وجعل له أجلاً معلوماً ورزقاً مقسوماً، فإذا فرَغ ما لَك عنده أَخَذَ ما لَه عندك: ذريَّة بعضها من بعض، سلام الله عليهم جميعاً.(1/71)


الأمل
[ والأمل ]: وهو تحديث النفس وتوطينها على الأعمال الدنيوية المستقبلة، ولما كان بعضها لابد منه في تدبير معيشة الإنسان ومن يعوله لم يرد الذم من الحكيم تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلا على تطويل الأمل دون تقصيره، وهو ما يتعلق بإصلاح المعيشة في يومه والأيام القريبة منه كأن يؤمل غداً أنه سيشتري طعاماً أو نحوه لعائلته أو سيحرث الجربة الفلانية أو نحو ذلك، وإنما المذموم التطويل بما وراء ذلك من طلب الزيادة على الحاجة وللأيام البعيدة لأن ذلك فضول يكسب القلب هماً واشتغالا بما لا يعني ولعله لا يصل إليه، وفي الحديث أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: " إن شر ما أتخوف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فاتباع الهوى يصرف قلوبكم عن الحق، وطول الأمل يصرف هممكم إلى الدنيا وما بعدهما خير لأحد في دنيا ولا آخرة "، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم ـ: " مثل الإنسان والأجل والأمل، فمثل الأجل خلفه والأمل أمامه، فبينما هو يؤمل أمامه إذ أتاه أجله فاجتاحه "، وفي السنة كثير من ذلك.
فثبت الأصل الأول وهو اختلاف الأجسام والأعراض على أنه معلوم ضرورة لكن حَسُنَ بسط الكلام في ذلك لما يتفرع عليه مما بعده من الاستدلال على إثبات الصانع المختار وإبطال غيره تعالى من المؤثرات التي زعمها أهل الإلحاد.
وأما الأصل الثاني: وهو أن اختلاف الأجسام والأعراض دليل على حدوثها.
فقد أشار عليه السلام بقوله: [ فتعرف ] بهذا الاختلاف [ أنه لا بد من مخالف خالف بينها وأحدث ما شاهدتَ حدوثه منها ]، وقد شملت هذه الجملة من كلامه عليه السلام طرفين: أحدهما: أن الاختلاف دليل الحدوث. والثاني: أن المُحدَث لا بد له من مُحدِث. فلنتكلم على كل واحد منهما بما يليق به حسب المقام.(1/72)


الاختلاف دليل الحدوث
أما الطرف الأول: وهو أن الاختلاف دليل الحدوث، فتقريره بما ذكره الأصحاب في كتبهم الكلامية وهو أن يقال: لا بد أن يكون بين الدليل والمدلول من تعلق على وجه لولاه لما وجب أو لما صح أو لما اختير أو لما حسن، وإلا لم يكن بأن يدل أولى من أن لا يدل، ولا بأن يدل عليه أولى من أن يدل على غيره.
أما الأول: فمثاله في حصول المسببات عن أسبابها الموجبة لها وذلك كانكسار الزجاج عن وقوع الحجر عليه بشدة، فإنه لولا وقوع الحجر عليه بشدة لما وجب انكساره.
ومثال الثاني: ما يصدر عن الفاعل المختار من الأفعال المختلفة في دلالتها على الفاعل وعلى أنه قادر عالم حي بأن يقال: لولا أنها لفاعل لما صح وجودها بعد عدمها، ولولا أنه قادر لما صح وجودها تارة وعدمها تارة أخرى، ولولا أنه عالم لما صح إحكامها، ولولا أنه مختار لما صح اختلافها، ولولا أنه حي لما صح جميع ذلك.
ومثال الثالث: ما نقوله في الاستدلال على عدل الله تعالى وحكمته وتنزيهه عن فعل القبيح بأن يقال: لو فرض منه تعالى فعل القبيح من تعذيب من لا يستحق العقاب كما يقوله أهل الجبر من خلق الأفعال والتعذيب عليها وإرادة القبيح وتكليف ما لا يطاق لما يلزم في فعل القبيح من الحاجة إليه أو الجهل بقبحه لولا أنه محتاج أو لولا أنه جاهل لقبح القبيح لَمَا اختاره، لكنه قد ثبت أنه تعالى عني وعالم بقبح القبيح فيتعذر صدوره منه.
ومثال الرابع: ما نقوله في الاستدلال على ثبوت نبوة من ظهرت المعجزات على يديه بعد ادعائه النبوة بأن يقال: لولا أنه نبي صادق لما حسن من الله تعالى إظهار المعجز على يديه لأن إظهار المعجز على يد الكاذب بمثابة تصديقه، وتصديق الكاذب في كذبه كذب قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح.(1/73)


إذا عرفت ذلك فالذي ترجع إليه المسألة التي نحن بصددها هو الثاني من هذه الوجوه الأربعة وهو قولنا: لولاه لما صح لأن الأول باطل بلزوم اتحاد العالم كما سيأتي تقرير ذلك، والأخيرين هما في ثبوت عدل الصانع المختار وصحة نبوة أنبيائه عليهم السلام، ونحن الآن في إثبات الصانع نفسه لا في إثبات عدله ونبوة أنبيائه، فنقول: لولا أن هذه الأجسام محدثة ولولا أن لها محدثاً مختاراً لما صح اختلافها، لأنها لم تكن بأن تختلف أولى من أن لا تختلف بل كان عدم اختلافها هو الأولى لأنها لو لم تكن محدثة لكانت قديمة، ولو كانت قديمة لما اختلفت، لأن القديم لا يختلف لاستلزام حدوث المختلف.
فثبت الطرف الأول وهو أن الاختلاف دليل الحدوث كما ترى من تقرير الدلالة على ذلك، وعلى ذلك يكمل هذا الطرف بمعرفة سؤال وجوابه، لأنه مهما لم يعرف المستدل جواب ما يرد على المسألة أو دليلها من السؤالات والاشكالات الواردة على ذلك كان المستدَل عليه غير ثابت عند المستدِل لعدم تأتي الجزم وسكون النفس عند عروض ذلك السؤال والاشكال حتى يعرف جوابه ويظهر عدم قدحه في المسألة ولا في دليلها.(1/74)


العلم ليس قديم
وهو أن يقال: قد جعلتم الاختلاف دليلا على الحدوث، وجعلتموه دالاًّ على حدوث كلي الشيئين المختلفين حسبما مر من تعداد الأجسام والأعراض المختلفة، وعندكم: أن الباري تعالى ليس مماثل لخلقه بل مخالف لخلقه فيلزم حدوثه تعالى لحصول الاختلاف بينه وبين غيره أو نقض الدلالة، فيصح القول بقدم العالم، لأن الاختلاف لا يقدح في قدمه كما قلتم في الباري تعالى.
والجواب والله والموفق للصواب: أن الاختلاف لا يكون دليلاً على الحدوث إلا إذا كان في شيء واحد كاختلاف أعضاء الإنسان وجوارحه وحواسه أو في شيئين قد جمعتهما صفة ذاتية لهما كالجسمية في الأجسام، والعرضية في الأعراض، والحيوانية في الحيوانات، والإنسانية وهي الناطقية مع الحيوانية، وهذا المعنى يؤخذ من كلام المؤلف عليه السلام في الأجسام، لأنها قد اشتركت في الجسمية، ثم افترقت هيئاتها وصورها إلخ، ومن قوله في الأعراض فقد اشتركت في كونها أعراضاً ثم افترقت وانقسمت بين شهوة ونفرة إلخ، وإذا حققت هذا المعنى وظهرت لك النكتة التي تحت الجمع بين الشيئين بصفة ذاتية ثم الفرق بينهما بصفة أو صفات قائمة بهما على سبيل الاختلاف والتضاد، علمتَ سقوط هذا السؤال وعدم قدحه في الدلالة على حدوث العالم دون الباري تعالى، لأنه لا صفة ذاتية جامعة بين الله تعالى وبين العالم، لأن العالم أجسام وهو تعالى ليس بجسم وأعراض وهو تعالى ليس بعرض، فلا مشابهة بينها وبينه تعالى ولا جامع في شيء من الصفات الراجعة إلى ذوات العالم كالجسمية والحيوانية والناطقية والعرضية، ولو شابه شيئاً من هذه الذوات لجاز عليه ما جاز عليها من الزيادة والنقصان والعدم والبطلان، ولوجب له ما يجب لها من التحيز للجسم وافتقار العرض والناطقية والحيوانية إلى الجسم القائمة به،واستحال عليه ما يستحيل عليها وهو وجودها من دون محل ولا فاعل، فالله سبحانه وتعالى لا جامع بينه وبين الأشياء، قال القاسم بن إبراهيم عليهما(1/75)

15 / 311
ع
En
A+
A-