فقد ذكر عليه السلام بعض ما يدل على أنه محدث بقوله [ ولقوله تعالى: ?مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ] إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ?{الأنبياء:2}، في سورة اقترب للناس حسابهم، وفي سورة الشعراء: ?وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ?{الشعراء:5}، ونحوهما قوله تعالى: ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا? {الزمر:23}، [ والذكر هو القرآن، ] بلا تنازع في ذلك و[ لقوله تعالى: ?وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ?{الزخرف:44}، أي شرف لك ولهم ] ويصح أن يكون الذكر بمعنى التذكرة كقوله تعالى ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ?{القمر:17}، ويصح إرادة المعنيين على اختيار أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم أن المشترك إذا صلح حمله على جميع معانيه حمل عليها.(1/696)


[ وأما قولي: إنه مَخلوقٌ، ] والمخلوق: هو الموجود المترتب النظم والمقدر على وفق الحكمة والمصلحة [ فلأنه ] أي القرآن [ مُتَرَتِّب ] والترتيب وضع كل شيء في مرتبته بأن يقدم ما يستحق التقديم ويوسط ما يستحق التوسيط ويؤخر ما يستحق التأخير [ منظوم ] أي مضموم بعض الحروف إلى بعض وبعض الكلمات إلى بعض ومقدر في وجوده [ على مقدار معلوم ] بأن كان على مائة سورة وأربعة عشر سورة أو ثلاثين جزءاً أو مقدار معلوم من الأحكام الثابتة والمنسوخة والقصص والمواعظ [ موافق ] لذلك [ للمصلحة، ] والحكمة، [ و ] إذا ثبت أن المخلوق في اللغة [ هو ] الموجود المترتب النظم والمقدر على وفق المصلحة، وثبت أن القرآن [ بهذه ] الصفة و [ المنزلة فجاز ] حينئذ وثبت [ وصفه بأنه مخلوق، ] ولعله عليه السلام إنما عدل عن أن يقول فصح أو فثبت وعبر بقوله: فجاز. للإشارة إلى منع محمد بن شجاع من المعتزلة وصفه بأنه مخلوق وإن كان محدثاً، لأن المخلوق يأتي بمعنى المختلَق -أي المنسوب إلى غير قائله-، ويصح أن يكون فيه إشارة إلى قول بعض المحدثين وبعض المتأخرين إن وصف القرآن بأنه مخلوق ووصفه بأنه غير مخلوق كل منهما بدعة، لأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لم يخوضوا ولم ينقل عنهم القول بأي المذهبين، وهذه جهالة ظاهرة من أهل هذا القول لأن وصف كلي النقيضين بالبدعة لا يستقيم لاستلزام أن الحق في غيرهما وهو محال، لأن إثبات ثالث للنقيضين ورفعهما معا مستحيل.
لا يقال: بل يمكن ثالث وهو الوقف وعدم الخوض في المسألة.(1/697)


لأنا نقول: الوقف وعدم الخوض في المسألة ليس بقول ثالث رافع للنقيضين، بل هو تردد هل الحق مع هذا أو الحق مع هذا، فلازمه عدم تخطئة الطرفين معاً وعدم تخطئة أحدهما بعينه حتى يعلم الحق كما في مسألة هل الجنة والنار موجودتان الآن أم لا ؟ فمن تردد في ذلك بأن خاض فتكافأت عنده الأدلة أو لم يخض في المسألة أصلاً فإنه لا يصح له أن يخطئ أحد المختلفين في وجودهما وعدمهما، فإذا قال: إن الكل بدعة، كانت صحة هذا القول مستحيلة لاستلزام أن الحق في ثالث وهو أن لا موجودتان ولا معدومتان وهذا محال، فيكون القول بذلك جهالة ظاهرة لمن تأمل، وأما زخرفة هذه المقالة بقولهم: إن السلف الصالح لم يخوضوا في ذلك ولم ينقل عنهم وصفه بأنه مخلوق ولا أنه غير مخلوق. فجوابه من وجهين:
أحدهما: المعارضة وهو أن يقال وكذلك لم تنقل عنهم هذه المقالة التي قلتموها وإلا فأسمعونا أثراً متواتراً أو آحادياً أنهم قالوا وصف القرآن بأنه مخلوق أو غير مخلوق كلاهما بدعة، بل المعلوم ضرورة أنهم كانوا يدينون ويعتقدون أن كل ما سوى الله فهو محدث ومخلوق، وأن الله تعالى خالق كل شيء إلا ما خصه الدليل وهو أفعال العباد، فدخل القرآن في عموم ما حكموا بحدوثه وخلقه، فكيف يصح أن يقال القول بحدوث القرآن أو خلقه بدعة وهو مقتضى قول السلف الصالح في التوحيد وحدوث العالم وخلقه لأن القرآن من جملة العالم فهو من جملة الشيء والمحكوم بحدوثه وخلقه؟(1/698)


ثانيهما: وجود النقل الصحيح عن الصحابة ما يقتضي القول بخلق القرآن [ و ] ذلك [ لما رواه عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " كان الله ولا شيء ثم خلق الذكر " والذكر هو القرآن كما تقدم. ]، وكذلك روى القرشي عن عمر: " اعملوا بالقرآن ما اتفقتم فإذا اختلفتم فيه فكلوه إلى خالقه "، ورواه المَدِيني بلفظ: " وما لم تعرفوه فكلوه إلى علم خالقه "، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: " ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من سورة البقرة وأعظم ما فيها آية الكرسي" ذكره شيخنا رحمه الله في السمط.
واعلم أن جميع ما ذكرنا من الأحكام المذكورة في الأربعة الأطراف ثابت لسائر الكتب المنزلة من عند الله تعالى من كونها كلام الله تعالى وأنها مسموعة وأنها محدثة وأنها مخلوقة، وخلاف الأشاعرة ونحوهم ثابت فيها كخلافهم في القرآن، ويلزمهم أنه إذا كان الجميع قديماً وكان صفة قائمة بذات الله تعالى ليس بحروف ولا أصوات أن لا يفرق بينها ولا يميز بعضها من بعض، لأنه صار الكل شيئاً واحداً بسيطاً لأنه لا يصح الاختلاف في القديم، فيجب أن يكون كل منها هو عين الآخر ويستحيل التعداد، فما قيل له التوراة هو عين ما قيل له القرآن أو الإنجيل إلى آخرها، وهذا معلوم البطلان، وأيضاً فآيات التوراة عبرانية والقرآن عربي وكل كتاب هو على لسان من أرسل به ومن أرسل إليهم ولا يمكن الأشاعرة إنكار هذا.
فإن قالوا: إن المعنى القديم مختلف باختلاف هذه الكتب ثبت حدوثه وصار مثلها فيبطل قولهم: إنه ليس بحروف ولا أصوات إذ قد صار مثل هذه الكتب فمتى، كانوا بهذه المرتبة من المناظرة.
قلنا لهم: إذاً فلا طريق إلى العلم بذلك المعنى القديم فلا يجوز القول به لعدم الدليل عليه ولعدم الحاجة إليه بل يجب نفيه، لأن في إثبات قديم مع الله تعالى لزوم إثبات إله مع الله تعالى واحتياجه إلى غيره.(1/699)


وإن قالوا: إنه المعنى القديم لا يختلف باختلاف هذه الكتب.
كان أبعد عن الصواب إذ لا مناسبة حينئذ بينها وبينه فيكون لا طريق إلى العلم به من باب الأولى، ويلزم فيه ما ذكر من أنه لا يجوز القول به لعدم الدليل بل يجب نفيه لئلا يلزم مع الله إلهاً آخر، ومن ثمة قال القرشي رحمه الله تعالى في المنهاج: وأما الكلام النفسي فلسنا نقول به فضلاً عن أن نصفه بقدمٍ أو حدوث.(1/700)

140 / 311
ع
En
A+
A-