قلنا: أما على كلام الشيخين فملتزم وجود الحروف دون الصوت كالكلام المحفوظ في الصدور والقرآن المكتوب في المصاحف،وأما العكس وهو وجود الصوت دون الحروف فلعلهما يقولان لا يلزم بأن الصوت مركب من الحروف كالعمارة المركبة من الحجارة ونحوها، فكما لا يلزم وجود العمارة من دون حجارة فكذلك لا يلزم وجود صوت مفيد من دون حروف، وإن كان فاعل الحجارة هو الله تعالى وفاعل العمارة هو فعل الإنسان فكذلك الحروف والتأليف بينها التأليف المخصوص وتركيب الكلمات التركيب المخصوص هو فعل الله تعالى، والصوت المحكي به تلك الحروف والكلمات فعل القارئ، وأما على كلام الجمهور فقول السائل: يلزم أن يكون القرآن مركباً من فعل الله تعالى وفعل القارئ. لا يسلم وإنما يلزم أن تكون القراءة مركبة مما ذكر وهو مسلم، وقوله: فافصلوا أحدهما عن الآخر. إن أراد تبيين ماهية أحدهما عن ماهية الآخر فقد بيناه بأن فعل الله هو إيجاد الحروف والكلمات على تلك التآليف والتراكيب المخصوصة، وفعل القارئ هو حكاية ذلك كما هو عليه بلا زيادة ولا نقص ولا أي تغيير، وإن أراد إيجاد أحدهما دون القرآن، فالجواب مثل ما أجيب به عن ما ورد على كلام الشيخين سواء سواء إلا أن الصوت المفيد عندنا متى وجد فلا يوجد إلا وهو حروف مقطعة وليس هو غيرها كما يقوله الشيخان.(1/691)


فاتضح بهذا الكلام جواب ذلك السؤال وزال به ما يعتري المقال بحمد الله من الإشكال، ويزيده وضوحاً ما ذكره في الإرشاد الهادي عن المؤلف عليه السلام في الينابيع النصيحة قال ما لفظه: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " القرآن موجود في ثلاثة مواضع في الصحف مكتوب، وعلى الألسن متلو، وفي القلوب محفوظ "، ويطابق هذا الخبر قوله تعالى: ?وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَoبَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ?{العنكبوت:49،48}، انتهى كلامه والمسك ختامه.(1/692)


فثبت بما ذكرنا أن القرآن مسموع وأنه كلام الله وإنما يتأتى هذا على قول العدلية: إن القرآن وإن كلام الله هو هذا المتلو بين أظهرنا والمقروء في المحاريب والمكتوب في المصاحف، فأما على قول الأشعرية وغيرهم من فرق المجبرة: إن القرآن قديم وإنه كلام الله قديم القائم بذاته تعالى وليس بحروف ولا كلمات، فلا يتأتى ذلك فيلزمهم بطلان ما صرحت به الآيات الكريمة من قوله تعالى: ?فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ?، ?إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عجباً?، ?يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ?، ?وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ?{الأعراف:204}، ?وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ?{الإنشقاق:21}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " القرآن كلام الله " الحديث، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا نزل بكم البلاء فعليكم بالقرآن " الحديث، " كل صلاة لا يقرأ فيها شيء من القرآن فهي خداج " ونحوه، وحملهم جميع ذلك على المجاز لما كان حكاية أو عبارة عن القرآن وعن الكلام القديم تأويل باطل، إذ لا يجوز الخروج عن الحقيقة إلى المجاز إلا لدليل قاطع في القطعيات أو راجح في الظنيات وليس ثمة هنا شيء من ذلك ولا أمارة توهم صحة ما زعموه مما هنالك، وأيضاً لو كان الأمر كما زعموا أن هذا حكاية أو عبارة عن كلام الله لكان إذا عبر عنه بالفارسية أو غيرها من سائر الألسن قرآناً وكلام الله والإجماع على خلافه، وأيضاً كان يلزم أن تكون التفاسير المعبر بها عنه قرآناً مثله وأن يكون كلام الله مثلها والإجماع على خلافه.
ومن خرافات الأشعرية: أنهم يقولون إن الكلام الذي سمعه موسى عليه السلام هو الكلام القديم، وإنه سمعه من جميع الجهات بجميع حواسه وجوارحه، وإنه لم يسمعه حروفاً وأصواتاً.(1/693)


وهذا كلام سخف لا شك في بطلانه لأنه لا يمكن إيصال الكلام القديم إلى موسى ولا إلى غيره إلا بفعل فاعل، وما تعلق به فعل الفاعل استحال أن يكون قديماً ولأنه مصادم للآية من حيث أن صريحها أن البدء من الشجرة لا كما زعموه من جميع الجهات، وأنه سمعه بآلة السمع لقوله: ?نودي? والنداء لا يستعمل إلا فيما يدرك بالسمع دون سائر الحواس وما أدرك بالجوارح، ويلزم على هذا أنه عليه السلام سمع ذلك الكلام بالرِّجْلَيْن ونحوهما مما لا يجوزه عاقل، ولأنه تعالى علق حصول الكلام على وصول موسى البقعة المباركة لقوله تعالى: ?فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي?{طه:11}، وما تعلق حصوله على حصول محدَث فهو محدَث، وأيضاً يلزمهم أنه تعالى تحيز في كل الجهات وأدرك بجميع الحواس والجوارح، لأن الكلام قائم به سبحانه لديهم فلا يدرك الكلام حينئذ إلا بإدراك ما هو قائم به وملامسته تعالى، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
من لم يكن آلُ النبي هداته .... لم يأت فيما قالَه بدليلِ
بل شبهةٌ وتوهمٌ وخيالةٌ .... ومقالةٌ تُنبي عن التضليلِ
الدليل على أن القرآن محدَث مخلوق
قال عليه السلام : [ وأما قولي إنه مُحْدَثٌ، ] فلدليل العقل ودليل السمع:
أما العقل:
[ فلأنه فعل من أفعاله تعالى، ] وإلا لما صح نسبته إلى الله تعالى والإخبار بأنه من عنده عز وجل، لأنا إذا فرضنا قدمه كان نسبته إلى الله تعالى كنسبته إلى غيره بجامع أن الكل لم يفعله ولم يؤثر فيه أي أثر، فلا يصح أن يقال هو من عند الله ولا أنه كلام الله، والإجماع على بطلان القول بأنه ليس من عند الله أو ليس كلامه على الجملة وعلى كفر من قال بذلك [ والفاعل متقدم على غيره بالضَرورة، ] وإلا لم يكن أحدهما فاعلاً والآخر مفعولاً بأولى من العكس [ وما يتقدمه غيره فهو ] مسبوق الوجود بغيره فيجب الحكم عليه بأنه [ محدث، ] بلا مرية لأن ذلك حقيقة المحدَث.(1/694)


دليل آخر: وهو ما ذكره عليه السلام بقوله [ ولأن بعضه متقدم على بعض، ] فإن قوله: ?بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِoالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? متقدم فيه جملة آية البسملة على آية الحمدلة، ومتقدم كلمات كل من الآيتين بعضها على بعض، ومتقدم حروف كل كلمة منها بعضها على بعض، [ وذلك ] أي التقدم والتأخر لبعض الآي على بعض، ولبعض الكلمات على بعض، ولبعض الحروف على بعض [ يدل ] قطعاً [ على أنه مُحدَث، ] جميعه أما المتقدم فلانقطاعه وخلف المتأخر منه، وما انقطع أو خلفه غيره فهو محدث ضرورة لأن القديم لا ينقطع ولا يخلفه غيره في الوجود، وأما المتأخر فلتقدم سابقه عليه وما تقدمه غيره فليس بقديم، فثبت بذلك أنه محدَث.
دليل آخر: هو مختلف ومتشابه في ذاته فمنه أوامر، ومنه نواهي، ومنه خبر، ومنه ناسخ ومنه منسوخ، ومن وعد ومنه وعيد، ومنه مدح ومنه ذم، ومنه تبشير ومنه تهديد إلى غير ذلك من أنواع الكلام، وكذلك مختلف الأساليب ومتشابه العبارات والقصص والأعاجيب فسورة الرحمان مثلاً أساليبها وعباراتها وقصصها من الإخبار بأنه تعالى خلق الإنسان وعلمه البيان ومن كون النجم والشجر يسجدان ونحو ذلك إلى آخر السورة مخالفة لجملة السورة التي قبلها سورة اقتربت الساعة، وكذلك سائر السور فقد حصل في القرآن التشابه والتخالف والتماثل والتوافق، وما دخله التخالف والتشابه ونحوها فلا بد له من فاعل فعل المتخالف متخالفاً والمتشابه متشابهاً ونحو ذلك، فثبت بذلك أنه محدث.
وأما السمع:(1/695)

139 / 311
ع
En
A+
A-