فالجواب: قول منع الجامع والفرق بأن الشاهد متكلم بآلة، والخرس والسكوت إنما يطلقان على المتكلم بالآلة والإيراد قوله، وبعد فإذا اعتمد في ذلك على الشاهد فمعلوم أن الشاهد إذا لم يكن متكلماً بهذه الحروف والأصوات كان أخرساً أو ساكتاً، فلزم إذا لم يكن الباري متكلماً بها فيما لم يزل أن يكون أخرساً أو ساكتاً انتهى، يعني فيلزمهم أن يكون تعالى ساكتاً أو أخرساً عن التكلم بهذه الحروف فما أجابوا به فهو جوابنا.
قالوا: لو لم يكن متكلماً في الأزل لكان غير عالم بأنواع الكلام ومدلولاته الإخبارية والإنشائية إلا عند وقوعها، والاتفاق كائن على أنه تعالى عالم بما سيكون قبل أن يكون فيجب أن يكون، متكلماً في الأزل وأن تكون صفة متكلم صفة ذات كعالم.
قلنا: ومن سلم لكم أنه يلزم من انتفاء التكلم انتفاء العلم، أوليس أن أحدنا ينتفي منه التكلم بالقذف وسائر أنواع الفجور وينتفي منه التكلم بما يقتضي الشرك وسائر أنواع الكفور مع أنه عالم بالألفاظ والعبارات المادية لذلك، وكالباري تعالى غير متكلم بالكذب والهزء ونحوهما مع علمه عز وجل بكل ما هو كذب وما هو هزء.(1/686)


وتحقيقه: أنه لا يلزم من ثبوت عالم ثبوت متكلم لأن العالم أعم من وجه وأخص من وجه، وكذلك لا يلزم من ثبوت متكلم ثبوت عالم لأن المتكلم كذلك أعم من وجه وأخص من وجه آخر فيجتمعان في مادة وينفرد كل واحد منهما في مادته الأخرى، فيجتمعان في نحو: الله واحد والعالم محدث وغير ذلك من الكلام المعلوم عند قائله، وينفرد المتكلم عن العالم في نحو قول الصبي غير المميز والمجنون والسكران أي قول كان صدقاً أو كذباً لأنه غير عالم به، وينفرد العالم عن المتكلم فيما يعلمه من الألفاظ التي لم يتكلم بها سواء كانت مما يجتنب النطق بها كالقذف ونحوه أو مما لا يجتنب كما يعلمه من أَكَاليم الناس والأكاليم التي تقع من المؤمن عند سؤال الملكين ومن المحرم عند ذلك وسائر ما أخبر به تعالى من الأكاليم في الآخرة، فإن هذه وأمثالها مما يعلمها العالم ولم يكن متكلماً بها إلا عند أن يوجد التكلم بها، ومن هذا القبيل علم الله تعالى بما سيكون قبل أن يكون فلا يلزم منه أنه متكلم به إلا عند أن يوجد الكلام فيما أراد التكليم به، فصح أن يكون عالماً في الأزل دون أن يكون متكلماً فيه، يزيده وضوحاً أنه يصح معلوم واحد بين عالمين فأكثر ولا يصح كلام واحد إلا من متكلم واحد.
وبعد فما أوردناه عليهم في جواب الاحتجاج الذي قبل هذا وأُورد هنا مثله أو عكسه بأن يقال: لو لم يكن متكلماً في الأزل بالكذب ونحوه لكان غير عالم به وهذا هو المثل، أو يقال: لو كان عالماً في الأزل بالكذب ونحوه لكان متكلماً به وهذا هو العكس، فما أجابوا به في ذلك فهو جوابنا.(1/687)


القرآن مسموع
قال عليه السلام : [ وأما قولي: إنه ] أي القرآن [ مسموع فذلك معلوم بالحِسِّ ] وهو الإدراك بآلة السمع وهو المعنى المركب في الصماخ الذي به تدرك المسموعات، كما أن البصر معناه في الحدق به تُدرَك المبصرات [ ولقوله تعالى: ?إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عجباً ? ] حاكياً ذلك عن النفر من الجن، [ والمعلوم ضرورة ] من حيث الدلالة الصريحة في قوله: ?قُرْآنًا? [ أن ذلك المسموع هذا القرآن. ] لا غيره وإذا ثبت من هذه الآية في الدلالة على المطلوب قوله تعالى: ?وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآن?{الأحقاف:29}.
إن قيل: إن المعلوم ضرورة أن المسموع عند التلاوة هو صوت القارئ وأثره الحاصل منه بإرادته وقصده، والمعلوم ضرورة أنه قد يكون القارئ متأخراً عن نزول القرآن كما في التابعين ومن بعدهم فإن لم يكن متأخراً عن نزوله كما في الصحابة، فالمعلوم أنه لا يقرأ الآية إلا بعد نزولها، فكيف جعلتم المسموع هو نفس القرآن والحال أن المسموع هو الصوت المتأخر عن وجود القرآن ونزوله بأوقات؟.
قلنا: هذا السؤال وإن كان الأمر فيه كما ذكر السائل، فإنه لا يقدح في كون القرآن مسموعاً لأن قراءة القارئ له تشتمل على أمرين محكي ومحكي به.(1/688)


فالمحكي: القرآن وهو الحروف المؤلفة كلمات منها تأليفٌ مخصوصٌ والكلمات المركبة بعضها إلى بعض تركيباً مخصوصاً فإن قوله تعالى: ?الحمد لله? فيها تأليف الحروف وهو جمعها تأليفاً مخصوصاً، وهو تقدم الهمزة ثم اللام ثم الحاء ثم الميم ثم الدال، ولو لم تكن على هذا التأليف بأن تتبع آلة التعريف الميم ثم الدال ثم الحاء لكان المدح لله، أو تتبعه الدال ثم الميم ثم الحاء لكان الدمح لله، أو يتبعها الدال ثم الحاء ثم الميم لكان الدحم لله، أو تتأخر آلة التعريف لكان حمد أل لله، فتأليف هذه الحروف على الوجه الأول دون الوجوه الأخيرة حتى صارت الكلمة الحمد هو فعل الله تعالى، ثم كذلك ضم هذه الكلمة إلى الكلمة التي تليها وتركيب الحروف التي تليها وهي الجلالة فعل الله تعالى أيضاً، ثم كذلك سائر الكلمات والآيات في جميع القرآن الكل فعل الله تعالى وإيجاده وإحداثه وخلقه.
والمحكي به: هو صوت القارئ الذي حكى به تلك الكلمتين على حسب ما وضعهما الله تعالى عليه من دون تقديم حرف على حرف ولا الكلمة الأخيرة على الأُولى حتى أنه لو قدم حرفاً على حرف أو أُخرى الكلمتين على الأولى لما كان قارئاً للقرآن ولا حاكٍ له، فعند التلاوة يسمع السامع تلك الحروف والكلمات بذواتها وهي القرآن فقد سمع القرآن حقيقة من هذه الحيثية، ومن حيث أن الصوت المحكي به تلك الحروف هو فعل القارئ فقد سمع الصوت حقيقة من هذه الحيثية.
فظهر بهذا أن السؤال وإن كان الأمر فيه كما ذكر السائل من أن الصوت مسموعاً وهو فعل القارئ وصوته غير قادح في أن القرآن مسموعاً، ولهذا ذهب أبو الهذيل وأبو علي إلى أن الكلام من قبيل الحروف لا من قبيل الأصوات فجعلوه جنساً غير الصوت مسموعاً مع الصوت وباقياً دون الصوت.(1/689)


قال القرشي رحمه الله تعالى: وإنما قالوا بهذا لئلا يلزم أن يكون التالي قد فعل مثل كلام الله وهذا غير لازم، لأن التالي يفعل ذلك محتذياً وليس من احتذى على فعل غيره يقال قد فعل مثله، فإن من أنشد قصيدة امرؤ القيس لا يقال قد جاء بمثلها فبطل ما توهموه انتهى.
وهو جيد لكن قوله: ليس من احتذى على فعل غيره يقال قد فعل مثله. يلزم عليه أن من عمر داراً محتذياً على عمارة أخرى أن لا يقال قد فعل مثلها وهو معلوم البطلان، فصواب العبارة: وليس من حكى قول غيره يقال قد فعل مثله.
قال الإمام يحيى عليه السلام في الطراز ما لفظه: ثم إنهم يعني النظار والفصحاء يقولون للكلام إضافتان فالإضافة الأولى إلى من ابتدأه وأنشأه وهذه هي الإضافة الحقيقة، والإضافة الأخرى هي إلى من حفظه وحكاه ويعلم قطعاً أن كل من قال:
قِفَا نَبْكِ من ذِكْرَى حبيبٍ ومنزلِ .... بِسِقْطِ اللَّوَى بين الدخولِ فَحَوْمَلِ
لا يكون معارضاً لامرؤ القيس فيما قاله من هذه القصيدة، بل إنما جاء بها على جهة الاحتذاء لقائلها انتهى كلامه والمسك ختامه.
فإن قيل: لا يخلو كل مما ذهب إليه الشيخان أبو الهذيل وأبو علي من أن الكلام مجرد الحروف دون الصوت، وما ذهبتم إليه أن الكلام هو مجموع الحروف والصوت من إِشْكَال، فعلى الأول أن توجد الحروف دون الصوت والعكس وهو مستحيل، وعلى الثاني أن يكون القرآن مركباً من فعل الله تعالى وهو تأليف الحروف وتركيب الكلمات على التأليف والتركيب المخصوص ومن فعل القارئ وهو الصوت، فافصلوا لنا أحدهما عن الآخر.(1/690)

138 / 311
ع
En
A+
A-