دليل آخر على كون القرآن كلام الله تعالى الحقيقي وهو ما ذكره عليه السلام بقوله:[ ولأن المعلوم ضرورة ] من جهة التواتر وإجماع الأمة الموالف والمخالف [ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يَدِيْنُ ] أي يعتقده ديناً له [ ويخبر ] الأنام جميعاً [ بذلك، ] أي بأن القرآن كلام الله، ولم يظهر من كلامه صلى الله عليه وآله وسلم أنه إنما قصد التجوز في تسميته كلام الله تعالى، بل كان يدين ويخبر بكونه كلام الله تعالى على جهة الحقيقة، ويزيده وضوحاً أنه كان يقول تارة كلام الله، وتارة قول الله، وتارة آيات الله، وتارة كلمات الله، وتارة من عند الله، وكلها مؤدية معنىً واحداً وهو أنه كلام الله، ولو أمكن حمل لفظة كلام الله على المجاز لما أمكن في سائرها، وهذا أصل أول من أصول هذا الدليل.
[ و ] الأصل الثاني: ما ذكره عليه السلام بقوله و [ هو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدين إلا بالحق، ولا يخبر إلا بالصدق ] إجماعاً بين المسلمين، والإجماع حجة قطعية، لكنه عليه السلام استظهر على ذلك بقوله [ لأن ظهور المعجز على يديه ] صلى الله عليه وآله وسلم [ قد استأمن وقوع الخطأ فيما يدين به، ووقوع الكذب فيما يخبر به. ] قوله: قد استأمن. فيه استعارة حيث أنه شبه المعجز نفسه أو شبه ظهوره على يديه صلى الله عليه وآله وسلم بإنسان طلب الأمان، من الوقوع في الخطأ والكذب ثم حذف المشبه به وأتى بما يناسبه وهو طلب الأمان فهو استعارة بالكناية أصلية إن كان التشبيه راجعاً إلى نفس المعجز أو تبعية إن كان راجعاً إلى ظهوره، وأردنا بالظهور الحدوث والوقوع دون المصدر فمن قسم الأصلية، وعبارة المنصور بالله عليه السلام : لأن ظهور المعجز على يديه قد أمننا. وفيه من الاستعارة ما في كلام المؤلف عليه السلام .(1/681)


فثبت بما ذكرنا أن القرآن العظيم كلام الله مع أنه لا قائل إن القرآن كلام غيره تعالى إلا الكفار المكذبين للرسول القائلين: إنما يعلمه بشر، والقائلين: إنه تَقَوَّلَه من تلقاء نفسه، غير أن المخالفين لنا في هذه المسألة زعموا إنما أطلق عليه أنه كلام الله مجاز لا حقيقة، فأما كلامه تعالى الحقيقي فإنما هو الصفة المعنوية القديمة القائمة بذات الباري تعالى عند الأشعرية والكلابية من المجبرة.
وقالت المطرفية: بل كلام الله معنى في نفس الملك الأعلى المسمى ميخائيل. واتفقت الثلاث الفرق أن هذا المتلو بين أظهرنا يقال له كلام الله تجوزاً لا حقيقة إلا عن بعض الأشعرية: أنه حقيقة مشتركة بينه وبين المعنى النفسي.
قالت الكلابية: وهذا المتلو هو حكاية كلام الله. فألزمهم أصحابنا أن تكون الحكاية قديمة أو يكون المحكي محدثاً، لأن الحكاية والمحكي واحد، هكذا ذكره القرشي رحمه الله عن الأصحاب وفيه ما فيه، لأن الحكاية فعل الحاكي والمحكي هو المعنى المراد عند الخصم.
ويمكن أن يجاب على هذا: بأن المراد واحد فيما دلا عليه لا في ذاتيهما، مثاله قوله تعالى: ?كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاًoفَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً? الآية{المزمل:15،16}، فإن هذه الجملة مدلولها ومعناها كونه تعالى أرسل موسى إلى فرعون وأن فرعون عصى الرسول ولم يؤمن بما جاء به فأخذه الله، وهذا المدلول والمعنى هو بذاته مما اشتمل عليه وتضمنه الكلام النفسي فظهر الاتحاد في المعنى وتَأكدَ الإلزام، ويلزم منه أن الكلام النفسي متعدد متنوع الأخبار بين إرسال وعصيان ومؤاخذة فيلزم اختلافه وحدوثه، وللخصم أن يقول لا نسلم أن هذا المدلول والمعنى الذي هو الإرسال والعصيان والمؤاخذة هو بذاته مما اشتمل عليه وتضمنه الكلام النفسي، بل هو مدلول ومعنى الكلام النفسي لا جزءاً من أجزائه ولا نوعاً من أنواعه، إذ لا جزءاً ولا نوع للكلام القديم.(1/682)


فيجاب عليه بعد التنزل أن يقال: الكلام النفسي لا يخلو إما أن يكون من قبيل الماهيات البسيطة التي لا تختلف أجزاؤها كالهواء والظلمة والنور والعلم والجهل البسيط، أو يكون من قبيل الماهيات المختلفة الأجزاء كالجسم والحيوان والماء والتراب، فإن كان من الماهيات البسيطة لم يصح أن يختلف مدلوله لأنه شيء واحد فمدلوله شيء واحد واللازم باطل ضرورة فكذا الملزوم، وإن كان من قبيل الماهيات المختلفة الأجزاء التي تدخلها الجنس والنوع والفصل والجزء صح اختلاف المدلول باختلاف تلك الأجناس والأنواع والفصول والأجزاء بحسب الدلالة الوضعية اللغوية فيما مرجعه إلى التسمية والتواضع، أو الدلالة العقلية فيما مرجعه الكل، أو الجزء، أو اللزوم، أو الجواز، أو الاستحالة، أو الاستحقاق، أو عدمه، أو التسبيب أو عدمه،وحينئذ فيكون الكلام النفسي محدثاً لاشتماله على الاختلاف الذي لا يوقف على نهايته ولا يحيط به علماً إلا الله تعالى، قال القرشي رحمه الله تعالى بعد ما حكى كلام الكلابية وما ألزمهم به أصحابنا: ولما رأت الأشاعرة وقوع هذا الإلزام قالوا: هو عبارة كلام الله. لينفصلوا عن هذا الإلزام وما علموا أنه لازم لهم أيضاً، لأن العبارة لا بد أن تكون من جنس المعبر عنه، وإنما فصل أهل اللغة في التسمية بين العبارة والحكاية من حيث أن الحكاية ترد بلفظ المحكي، والعبارة ترد بلفظ غير لفظ المعبر عنه.
قلت: ولتسليم أن أهل اللغة فصلوا بينهما لم يتضح الجواب وإن فرض اتضاحه فليس بمقنع، إذ يقول الخصم بعد ذلك فالعبارة مختلفة والمعبر عنه غير مختلف فلا يلزم حدوثه، فالأولى في الجواب عليهم ما ذكرناه في الرد على الكلابية بأن يقال: فالمعبر عنه وهو الكلام النفسي لا يخلو إما أن يكون من قبيل الماهيات البسيطة الخ، ومثل كلام الأشعرية كلام المطرفية: إن هذا المتلو عبارة عن كلام الله تعالى.(1/683)


ويقال لهم الجميع: إذا كان هذا الذي نتلوه بين أظهرنا حكاية كلام الله تعالى أو عبارة فأخبرونا من الحاكي له ومن المعبر ؟ ومن قال الحكاية والتعبير أولاً مبتدأً ومنشئاً ؟ ومن قال ذلك مقتدياً ومحتذياً ؟ فإن قالوا: الحاكي والمعبر ابتداءً وإنشاءً هو الله تعالى ثبت أنه كلام الله تعالى حقيقة، ولم يبق طريق إلى العلم بالمعنى القديم إلا التمذهب، أو يقولوا: إن الكلام يعبر به عن المعاني وتحكى تلك المعاني به فيجب أن يكون عبارة وحكاية عن المعنى القديم، فيكون هذا دليل على ثبوته.
قلنا لهم: مسلم قولكم إن الكلام يعبر به عن المعاني وتحكى تلك المعاني به، ولكن ما جوابكم لو قلنا: وتلك المعاني هي ما سبق الكلام خبراً عنه من الوقائع الكائنة فيما مضى كالإرسال والعصيان والمؤاخذة في شأن موسى عليه السلام وفرعون كأخبار الأمم الماضية والقرون الخالية، وكخلق السماوات والأرض وما بينهما وجميع أصناف العالم، وكالوقائع الآتية من البعث والإعادة والجنة والنار وما سبق الكلام إنشاءً وطلباً لما دل عليه من الأوامر والنواهي وما يترتب عليهما من المدح والثواب والذم والعقاب، فهذا هو ما وضع القرآن للدلالة عليه لا المعنى القديم القائم بذات الله تعالى فليس عليه دليل ولا إلى العلم به سبيل، فيجب القول بنفيه لعدم الطريق إليه بل قام الدليل على بطلانه بل على استحالته لاستلزامه الحدوث على الله تعالى أو إثبات إله معه، تعالى الله عن ذلك.
وإن قالوا: الحاكي والمعبر ابتداءً وإنشاءً هو غير الله تعالى.(1/684)


فإما المَلَك وإما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى التقديرين فلم يكن القرآن من عند الله لأن القائل به والمنشى له غيره تعالى، وفي ذلك موافقة الكفار أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تَقَوَّلَه فلا يصح القول بذلك، ويجب القطع بأن الذي قاله وابتدأه وأنشأه هو الله تعالى لا حكاية عن معنى قديم، بل عن ما كان وما سيكون وما فيه صلاح الخلق من الأوامر والنواهي وغير ذلك، فيكون الملك أول من قاله مخبراً به عن الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثانياً بواسطة الملك، ويكون سائر المكلفين ممن قاله وتلاه وحكاه على سبيل الاقتداء والاحتذاء، وهذا ظاهر لا إشكال فيه.
قالوا: لو لم يكن الله سبحانه متكلماً في الأزل لكان ساكتاً وأخرساً.
قلنا: لا نسلم الانحصار في الثلاثة المذكورة حتى لا يمكن الانفكاك عن متكلم إلا إلى أحد المذكورين الأخيرين، إذ يمكن أن يقال لو لم يكن متكلماً لكان غير متكلم بأن لا يفعل الكلام من دون أن يوصف بأنه ساكت أو أخرس، لأن هاذين القسمين من أوصاف من يفعل الكلام ويوجده بآلة اللسان واللهاة، وأعم منهما تارك الكلام أو غير متكلم إذ يشملا تارك التكلم بالآلة كالإنسان وتارك التكلم بغير آلة وهو الباري تعالى، فإذا انتفى كونه ساكتاً أو أخرساً لم ينتف كونه غير متكلم أو تارك للكلام لأن انتفاء الأخص لا يستلزم انتفاء الأعم، وبعد فهم موافقون لنا أن الله تعالى غير متكلم بالكذب والهُزء ونحوهما من الكلام الباطل، فيقال: لو لم يكن متكلماً بالكذب ونحوه لكان ساكتاً عنه أو أخرساً بالنسبة إليه فما أجابوا به فهو جوابنا.
وقد أطال القرشي رحمه الله تعداد وجوه جواب هذه الشبهة والإيرادات اللازمة عليهم في تمسكهم بها فلا نطيل الكلام بذكرها، فمن أراد الاطلاع عليها فليأخذها من منهاجه، لكن نذكر من ذلك جواباً وإيراداً.(1/685)

137 / 311
ع
En
A+
A-