الدليل على أن القرآن كلام الله
[ فإن قيل: ] لك [ فما دليلك على ] كل طرف من الأربعة المذكورة في [ ذلك؟ ] الجواب المذكور [ فقل: أما قولي إنه كلام الله ] تعالى، فالدليل على ذلك من العقل، ومن السمع.
أما العقل: فلأن الكلام من جملة الأفعال المفتقرة إلى فاعلها في وجودها ويستحيل بروزها في الخارج من دونه كالخلق والرزق والكتابة والعمارة وسائر الأفعال، ثم إذا أريد الإخبار عنها من أي فاعل صدرت أُتي بمصدر ذلك الفعل وأُسند إلى فاعله كخلق الله ورزقه وكتابة زيد وعمارة عمرو ونحو ذلك، وقد ثبت أن القرآن كلام لم يكن من غيره فلزم أنه كلامه تعالى بمعنى أنه الذي أوجده وركب حروفه وأحكم آياته، وصح وصف الباري تعالى بأنه متكلم به بمعنى فاعل وموجد له وإن لم يكن كتكلم المخلوق بلسان ولهاة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لأن جميع أفعاله تعالى من دون مماسة ولا بآلة، بل يخلق الكلام بأن يوجده مجهوراً في الهواء كصوت الرعد، أو في محل غير الهواء كما سمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى من الشجرة، أو بكتبه في اللوح بأن يخلق تلك الكتابة ويفهم الملك معناها المراد له عز وجل، ثم يبلغه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجميع ذلك كيفية في إيجاد الكلام ?إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? {يس:82}.(1/676)


قال الإمام يحيى عليه السلام : أجمع المسلمون على وصف الله تعالى بكونه متكلماً ولكن اختلفوا في وصفنا له بذلك، فعندنا وهو قول المعتزلة إن فائدة وصفنا لله تعالى بكونه متكلماً أنه خلق هذه الحروف والأصوات في جسم من غير أمر زائد على ذلك، وكونه متكلماً عندنا وعندهم يجري مجرى الأوصاف الاشتقاقية التي لا يعتبر فيها إلا مجرد الفعل لا غير كقولنا: خالق ورازق، وزعمت الأشعرية أن كلام الله تعالى صفة حقيقية مغايرة لوجود هذه الحروف والأصوات قائمة بذاته تعالى، وأن معنى كونه تعالى متكلماً عندهم هو اختصاصه بهذه الصفة وقيامها بذاته تعالى كالقادرية والعالمية، وزعموا أن هذه الحروف دالة على هذه الصفة، هكذا نقله عنه في الإرشاد وفي شرح الأساس بدل قوله: وزعمت الأشعرية الخ.
وأما الأشعرية فزعموا أن الكلام يطلق بالاشتراك على أمرين: أحدهما: على المعنى القائم بالنفس، وثانيهما: على هذه الحروف المسموعة، وزعموا معنى كونه تعالى متكلماً هو اختصاصه بصفة حقيقية مغايرة لوجود هذه الحروف والأصوات كالقادرية الخ.(1/677)


قلت: والذي يبطل كلام الأشعرية أنه لو كان كونه متكلماً صفة من صفات الذات كالقادرية والعالمية ونحوهما لكان متكلماً بكل أنواع الكلام، إذ لا اختصاص للصفة الذاتية بنوع من أنواع متعلقاتها دون نوع كالقادرية، فإنه تعالى لما كان كونه قادراً صفة ذاتية كان قادراً على كل المقدورات، وكالعالمية فإنه تعالى لما كان عالماً صفة ذاتية كان عالماً بكل المعلومات، ولا اختصاص لذاته بمقدور دون مقدور ولا بمعلوم دون معلوم، بل هو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، فلو كان كونه متكلماً صفة ذاتية لكان كصفة قادر وصفة عالم فيلزم أن يكون متكلماً بكل أنواع الكلام كالصدق والكذب والجد والهزل والهزؤ والسخرية، وجميع أنواع الكلام من حق وباطل ومدح وثناء على نفسه وأوليائه وأعدائه وذم وسب ولعن لكل من الملائكة والأنبياء والمؤمنين والكافرين والفاسقين، والتزام ذلك جهالة مفرطة وخروج من الدين وعدم التزامه معاندة ظاهرة إذ قد جعلوها كقادر وعالم، فلا وجه للفرق مع الاتفاق في كون الجميع صفة ذات متعلقة، وقولنا: متعلقة، تخرج صفة حي وموجود فلا يتعلقان بشيء، فلزم بطلان القول بأن صفة متكلم صفة ذات، ولزم القول بأنها صفة فعل كخالق ورازق ومتفضل وسائر صفات الأفعال ولأنه يدخلها التضاد، تقول: الله يقول الحق ولا يقول الباطل أو يتكلم بالحق ولا يتكلم بالباطل، ولو كانت ذاتية لما دخلها التضاد كما لا يدخل في قادر وعالم فلا يقال: الله قادر على كذا غير قادر على كذا ولا عالم بكذا غير عالم بكذا.
وبهذا تقرر أن الكلام من صفات الأفعال التي يفعلها عز وجل متى شاء وأين شاء وكيف ما شاء يفعل منه ما كان حسناً كالصدق والإرشاد ونحوهما، ولا يفعل منه ما كان قبيحاً كالكذب والتعمية ونحوهما.
لا يقال: هذا لا يلزم كما أنه لا يلزم من كونه قادراً وعالماً بالقبيح فلا يلزم أنه فاعله، فكذلك وإن كان متكلماً بصفة ذاتية كقادر وعالم فلا يلزم أنه متكلم بالقبيح.(1/678)


لأنا نقول: إن مبنى هذه المدافعة على أن المرجع بصفة متكلم إلى صفة قادر وعالم أو أنها صفة فعل والأول لا يقول به قائل والثاني هو ما نريد، وإنما قلنا: إن مبنى هذه المدافعة على أن المرجع بصفة متكلم إلى صفة قادر وعالم الخ، لأن حينئذ أي حين نجعل متكلماً صفة ذاتية يصير المعنى عند أن نقول الله متكلم لا يخلو إما أن نقدر عموم التعلق بجميع أنواع الكلام، وإما أن نقدر خصوصه بما هو الحق من الكلام.
فإن قدرنا العموم وهو لازم الصفة الذاتية لما مر أن الصفة الذاتية لا اختصاص لها بمتعلق دون متعلق لزم أن يدخل فيه متكلم بالقبيح كما يدخل في قادر قادر على القبيح، وفي عالم عالم بالقبيح، فإذا جعلنا متكلماً مثلهما لزم أن يكون متكلماً بالقبيح وهو باطل إجماعاً إلا إذا أريد به قادراً على التكلم بالقبيح وعالماً بكيفية التكلم به فقد رجعت متكلم إلى قادر وعالم ولا قائل به، ولا يلتزمه الخصم لأنه يعد صفة متكلم صفة مستقلة برأسها ويعدها إحدى الصفات التي تثبت له تعالى لمعان قديمة هي القدرة والعلم والحياة والكلام والإرادة والكراهة، ولا يقول إن المرجع بمتكلم إلى قادر أو إلى عالم وإن كانتا ملازمتين لها فالتلازم لا يدل على الاتحاد كملازمة حي لقادر عالم، وإن قدرنا الخصوص بأن نقول متكلم بالحق لزم الافتقار إلى المخصص وليس إلا فعل الفاعل للكلام بأن يختار ويقصد التكلم بالحق دون التكلم بالباطل، فتكون صفة التكلم صفة فعل له ومختارة له يفعل الكلام بها على وجه دون وجه، فتخرج عن كونها قديمة إلى كونها محدثة وعن كونها صفة ذات إلى كونها صفة فعل وهو الذي نريد ويستحيل خلاف ذلك، لأن الصفة القديمة والذاتية لله تعالى لا يمكن فعل فاعل يخصصها ويجعلها على وجه دون وجه فتأمل.(1/679)


وحينئذ يصير قولنا: القرآن كلام الله، من باب إضافة الفعل إلى فاعله لا من باب إضافة المعنى إلى محله خلافاً للأشعرية، لكنهم يفرون عن إطلاق المحل ويقولون: قائم به لا حالٌ فيه. لاستلزام الحلول الحدوث وهو فرار غير منجي، لأن القيام هنا لا معنى له غير الحلول كقيام السواد والبياض بالجسم لا معنى له غير كونه حالاً فيه فتأمل.
ويؤكد ما قلناه قول أمير المؤمنين عليه السلام في النهج: وإنما كلامه فعل منه أنشأه ولم يكن قبل كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً.
وأما السمع: [ فلقوله تعالى: ?وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ?{التوبة:6}، وهذا: أصلٌ أول للدلالة.
والأصل الثاني: قوله [ والمعلوم أن الكلام الذي سمعه المشركون ليس شيء غير هذا القرآن، ].
أما الأصل الأول: فهو صريح الآية فلا يحتاج إلى مزيد عناية في تقريره، وقد زعم المخالفون أو بعضهم أنه إنما سماه كلام الله مجاز لأنه عبارة عن كلامه القائم بذاته، وهذا تأويل باطل لأن الواجب حمل الكلام على حقيقته ولا يجوز العدول عنها إلى المجاز إلا لمانع، فأي مانع ثبت لهم عن أن يقال: القرآن كلام الله؟ فثبت أنه لا صحة لهذا التأويل إلا المذهب الذي لا صحة له.
وأما الأصل الثاني: وهو أن الكلام الذي سمعه المشركون ليس شيء غير هذا القرآن، فقد استغنى المؤلف عن ذكر الدلالة عليه بكونه معلوماً، وكأنه يريد بكونه معلوماً من حيث أنه لا مخالف أن المراد بالآية حتى يسمع القرآن، وإن ادعى المخالف أن تسميته كلام الله مجاز أو أنه معلوم بالاستقراء والتتبع، ماذا كان يسمعهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى يعلم أنه كان يسمعهم القرآن أو أنه معلوم بالتواتر أنه كان يسمعهم إياه والكل صحيح الاعتبار، ويزيده وضوحاً أنه لا شيء يمكن الإشارة إليه أنه كلام الله أُمِر الرسول أن يسمعه من استجاره من المشركين غير القرآن.(1/680)

136 / 311
ع
En
A+
A-