وأما ما ذهب إليه الحشوية من جواز الكبائر عليهم مطلقاً، والأشعرية وأبو الهذيل وأبو علي من جواز ذلك قبل البعثة، فلا حجة لهم إلا ما حكاه الله تعالى عن الأنبياء وهو باطل، إذ لا دليل على كبر ذلك وإلا لزم معاداتهم وجواز ذمهم للزوم ذلك في كل ذي كبيرة إجماعاً، واللازم باطل لأنه كفر بالإجماع فيلزم بطلان الملزوم.
قالوا: نقطع بصغر ذلك منهم لكثرة ثوابهم، وإن كان كبيراً في حق غيرهم.
قلنا: فتسقط المسألة ويسقط الاستدلال عليها بما ذكرتم.
والتحقيق: أن الكلام في المسألة في طرفين الوقوع و الجواز، فإن أرادوا الأول فهو باطل بما ذكرنا، وإن أرادوا الثاني فلا يكفي في إبطاله ما ذكرنا بل لا يتناوله، فيستدل على بطلانه بأن تجويز ذلك منهم يؤدي إلى التنفير عنهم وفي الكلام ما فيه، لأنه مبني على القول بوجوب اللطف وقد مر الكلام فيه وتقرير عدم وجوبه، ويمكن أن يقال: أما الجواز الذي في مقابل الإحالة فلا شك في جواز ذلك عليهم عليهم السلام لقوله تعالى: ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ?{الزمر:55}، ?لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاًoإِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ …? {الإسراء:75،74}، وأما الجواز الذي يلزم منه نفي الحكمة والمصلحة، فالأظهر ما قاله الجمهور: لا لوجوب اللطف بل لأنه تعالى يفعله قطعاً لما فيه من الحكمة والصلاح، والله أعلم.(1/671)
فصل في الكلام في المسائل التي يجب على المكلف معرفتها واعتقادها في القرآن الكريم
ومن المتكلمين من يقدم الكلام على القرآن على الكلام على النبوة، لأن القرآن دليل النبوة ودليل الشيء يتقدمه في الذات، ومنهم من يؤخر ذلك كالمؤلف وصاحب الأساس عليهما السلام لأن القرآن هو البرهان والبرهان يتأخر عن الدعوى في الرتبة والكل مستقيم، ولكن ينبغي معرفة الوجه الذي لأجله وجب اعتقاد ما قاله المتكلمون في القرآن من تلك المسائل ولم أجد من نَصَّ عليه، ولعل الوجه في ذلك أن التوحيد والعدل لا يكملان إلا بمعرفة ذلك، لأنا إذا لم نقل بأن القرآن محدَث واعتقدنا قدمه قدحنا في التوحيد حيث أثبتنا مع الله قديماً ثانياً يشاركه في أخص أوصافه، وما شارك في أخص أوصاف الذات شارك في سائر صفات الذات من القادرية والعالمية والحيية، فيلزم أن يكون القرآن إلهاً ثانياً فلزم معرفة حدوثه، وإذا لم نقل إن القرآن كلام الله وفعله الدال على نبوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كان قدحاً في العدل حيث لم يفعل ما يبين به عز وجل دلالة النبوة وما يترتب عليها من بيان الشرائع التي وجبت علينا شكراً له تعالى ووجب عليه تعالى بيان كيفية أدائها، فإنه إذا لم يفعل ذلك كان قادحاً في عدله عز وجل وحكمته، وإن حصل ذلك من جهة غيره وهو القديم الثاني وهو القرآن، فلزم معرفة تلك المسائل المتعلقة بالقرآن، لتستقيم أصول العدل والتوحيد والنبوة والشرائع وهذا واضح كما ترى.(1/672)
القرآن كلام الله
قال عليه السلام :[ فإن قيل: ] لك أيها الطالب [ فما اعتقادك في القرآن؟ فقل: اعتقادي أنه كلام الله ] وحقيقة الكلام في اعتقاد المتكلمين: ما تركب من حرفين فصاعداً، وزاد بعضهم وكان مسموعاً لتخرج الكتابة وحديث النفس، وزاد بعضهم: وكان مفيداً ليخرج المهمل، والصحيح أن لا حاجة إلى الزيادة.
أما الكتابة فلم يشملها جنس الحد حتى تحتاج إلى إخراجها لأن المركب من حرفين هو مدلولها وهو الكلام وهي وإن تركبت من تخطيطات وهيئات مخصوصة فليست مركبة من حرفين، وأما حديث النفس والمهمل، فمع اشتمالهما على الحرفين فصاعداً فهما من أقسام الكلام فلا حاجة إلى إخراجهما.
لا يقال: فيلزم دخول الكلام النفسي في الحد وأنتم لا تقولون به.
لأنا نقول: إنما نفينا الكلام النفسي الذي يثبته الخصم معنىً قائماً بذات المتكلم ولا صفة له بالمعنى الاصطلاحي وإن كانت صفة بالمعنى اللغوي، بل جعلناه فعلاً له يفعله متى شاء وكيف شاء، وسواء كان مجهوراً به وهو المسموع بالفعل أو لا، وهو المسموع بالإمكان بمعنى أن سمعه ممكن لو جهر به وسواء كان ملفوظاً به كالقراءة السرية أو لا كالمتحدث به في النفس، وقد دل على الجميع قوله تعالى: ?إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنْ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ?{الأنبياء:110}، وعلى ما ذكرنا من كونه مسموعاً بالفعل أو بالإمكان يتمشى الإطلاق في قول المؤلف عليه السلام [ وأنه مسموع ] فهذان طرفان مما يتعلق بالقرآن من العقائد أحدهما: أنه كلام الله تعالى، والثاني: أنه مسموع.
فأما الطرف الأول: وهو كونه كلام الله. فهو المسألة التي نص عليها أئمة الكلام من الزيدية والمعتزلة ومن وافقهم أنه يلزم كل مكلف معرفتها واعتقادها، وجعلوها إحدى الثلاثين المسألة الواجبة من علم الكلام.(1/673)
وأما الطرف الثاني: فلعل المؤلف عليه السلام ذكر ذلك لما حدث من قول المطرفية: إنه ليس بمسموع وإن جهر به وإنما المسموع هو المتكلم، وإلا فليس ذلك مما يلزم كل مكلف إلا بعد طروء الشبهة وقدحها عليه، وإلا فلو فرضنا إنساناً اعتقد كون القرآن كلام الله تعالى ولم يخطر بباله هل المسموع كلام الله أم المتكلم لما كان عليه في ذلك بأس، ولذلك لم تُعَد في المسائل الثلاثين الواجبة بالأصالة على كل مكلف.(1/674)
القرآن مُحْدَث مخلوق
قوله عليه السلام [ وأنه محدث مخلوق، ] يعني ليس بقديم كما تقوله الأشعرية وغيرهم من الحشوية والمحدثين، وهذه هي المسألة الثانية مما يجب على المكلف معرفته واعتقاده في القرآن وهي إحدى الثلاثين الواجبة، والوصفان أعني -محدث مخلوق- بمعنى واحد، لكن ذكرهما معاً للإشارة إلى خلاف محمد بن شجاع من المعتزلة بأن القرآن محدث غير مخلوق قال: لأن المخلوق المنسوب إلى غير قائله.
وحينئذ فصارت الجملة المذكورة في جواب السؤال مشتملة على أربعة أطراف: أنه كلام الله تعالى، وأنه مسموع، وأنه محدث،وأنه مخلوق، وقد خالف في كل طرف منها قوم كما قد ذكر آنفاً وكما سيأتي.(1/675)