فهذه الآيات الخمس شلمت إحدى وعشرين حجة بالصراحة والمطابقة، فأما بالتضمن والالتزام فاكثر من أن تحصر وأجل من أن تذكر، وجعل فاصلة كل آية مناسبة لما ذكر في تلك الآية من تلك الحجج حيث جعل فاصلة الأولى ?بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ? يعني عن الحق مع وضوحه في خلق السماوات والأرض وإنزال الأمطار وإنبات الأشجار وعجز جميع المخاطبين عن الإنبات رأساً، وجعل فاصلة الثانية ? بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ?، لما كان المذكور فيها يتضمن الحكمة في جعل الأرض قراراً وفي خلالها إنهاراً، وفي جعل الجبال رواسي شامخات، وفي جعل الحاجز بين البحرين ما يحتاج إلى تأمل المصلحة للخلق والإنعام به ما يظهر بأدنى تأمل، لكن أكثرهم لم يتأملوا فلم يعلموا بالحكمة والمصلحة، وجعل فاصلة الثالثة ? قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ?، لما كان المذكور فيها من الحجج ومن إجابة دعوة المضطر وكشف السوء وجعل المخاطبين خلفاء في الأرض عمن قبلهم مَلكهم منازلهم وأورثهم ديارهم وأموالهم نعمة عظيمة ومِنَّة جسيمة قَلَّ ما يتذكرونها ويشكرونها، وجعل فاصلة الرابعة ?فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ?، لما كان ما ذكر فيها من الحجج من الهداية في ظلمات البر والبحر وإرسال الرياح منتشرة في الآفاق مبشرة برحمة الملك الخلاق ينسبه أهل الإلحاد وعباد الأصنام إلى غيره من الطبائع أو الأفلاك أو غير ذلك مما ينسبه أهل الضلال إلى غير ذي العظمة والجلال، وجعل فاصلة الخامسة ?قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ?، لما كانت خاتمة الآيات السابقة وكانت المحاججة بكل ما ذكر في جميع الآيات المتناسقة فطلب منهم البرهان على ما يخالف تلك الحجج، أو شيئاً منها، أو يبين صدوره عن شيء مما أشركوا به تعالى إن كانوا صادقين في دعواهم إلهية الأصنام مع الله تعالى جل وعلا، أو حصول نفع مما أشركوا به سبحانه وتعالى، وأتى بأن المفيدة تبعيد بل استحالة صحة ما زعموه، ولم يأتي(1/656)
بإذا وغيرها من حروف الشرط أو التعليل لما كانت لا تفيد ما تفيده أن من التبعيد والاستحالة، وجعل كل فاصلة مسبوقة بقوله: ?أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ?لأنه نتيجة ما ذكر فيها من الحجج على إثبات إلهيتة تعالى ونفي الإلهية عما سواه، والاستفهام إنكاري يفيد الإنكار عليهم في إثبات إله معه تعالى وأدخله على النكرة ليعم نفي الإلهية عن كل شيء يدعون ثبوتها له معه تعالى، فكأنه قال أءله مع الله بل لا إله إلا هو تعالى عما يشركون وإلا فأتوا برهانكم على صدق دعواكم لو أمكن صحتها مع بعدها واستحالتها، وجعل الفواصل من عند الآية السابقة وهي قوله: ?ءآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ?، إلى رابعة الخمس اللاحقة على قافية واحدة وهو الواو والنون الموضوعتين لضمير العقلاء مخاطبين أم غائبين، وأبدل الواو بالياء في خامسة الآيات اللاحقة لأنه خبر كان يجب نصبه بالياء مراعاة لاجتناب عيب الكلام بالنظر إلى ذاته وهو اللحن، إذ هو أقبح عيوب الكلام عند النحاة والعرب دون مراعاة القوافي في السجع، إذ ذلك ليس إلا من باب محسنات الكلام بعد سلامته عن العيوب واشتماله على الفصاحة والبلاغة عند أهل المعاني والبيان، فكأن الآيتان بالياء دون الواو على الوجه الواجب عند الجميع، فهذان الشاهدان قد ارتقيا في الفصاحة أعلى مكان وأخذا من البلاغة ما يعجز عنه الثقلان، وتضمنا من الحجج العقلية والبراهين اليقينية ما عنده تقصر أصول المتكلمين وتفتر مقدمات المنطقيين، غير أنه حسن منهم رحمهم الله تعالى تحرير تلك الأصول وبناؤها على المقدمات والنتائج لما وضع أهل الإلحاد شبههم على ما هو من جنسها في الصورة والتركيب لأن السحر لا يبطل إلا بمثله، ولكنما هذا الحلال من السحر، ولأن كثيراً ممن كذب بالقرآن لا يصغي إلى استماع آيات الله ولا ينقاد لتدبر كلام الله، وإنما ذكرت هذين الشاهدين وإن طال بهما الكلام لأن كثيراً من الأصحاب المنتهبين والطلبة الراغبين يذكرون على جهة(1/657)
الإجمال والمسلمات أن إعجاز القرآن في فصاحته وبلاغته التي يعجز عنها جميع الخلق، ثم يقتصرون على الجمود وعدم تحقق إلا ما كان من المتكلمين من الاستشهاد على وجودهما جملة بعجز المشركين عن المعارضة مع احتمال أن العجز كان لأمر غيرهما مهما لم يذكر ما يدل ويستشهد به على وجودهما في أعلى مراتبهما التي قصرت الأفهام عن الإحاطة بمبلغهما في ذلك الكتاب العزيز، وحارت الأوهام دون الحياطة بأسرار ذلك الكلام الوجيز مع أن المسألة التي نحن بصددها وهي إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا شاهد لها لمن لم يعاصره صلى الله عليه وآله وسلم إلا تقرير إعجاز القرآن دون سائر معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم فقد انقضت بانقضائه، وإن كان فيها ما يدعى تواتره كحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وآله وسلم وإشباع الكثير من الطعام القليل، فالخلاف بين العلماء في تواتره ومساغبة النافين نبؤته صلى الله عليه وآله وسلم لا تنتهض معها الدلالة القاطعة على المطلوب بخلاف معجزة القرآن فهي قاطعة لكل لجاج وحاوية لكل حجاج وباقية ما كلف الثقلان، ودائمة ما تكرر الملوان ولله البويصري حيث يقول:
دامت لدينا ففاقت كل معجزة .... من النبيين إذ دامت ولم تدم(1/658)
بعض معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
[ وله صلى الله عليه وآله وسلم معجزات كثيرة تقارب ألفاً ] وقيل: ثلاثة آلاف معجزة، قال السيد عبد الحميد رحمه الله تعالى في منظومته:
وعَدَّ الخوارزمي منها بعلمِهِ .... ثلاثة آلاف سوى ما استترت
قال شيخنا رحمه الله تعالى: والأول قول الحاكم والثاني قول الإمام يحيى، وأرادوا ما ظهر من حال الطفولية، وقيل لا تحصر.
وقال القاضي عياض في الشفاء: اعلم أن معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم مع كثرتها لا يحيط بها ضبط، فإن واحداً منها وهو القرآن لا تحصى عد معجزاته بألف ولا ألفين ولا أكثر [ نحو: جري الصخرة إليه ] صلى الله عليه وآله وسلم [ وجريها على الماء كالسفينة[ 1 ]، وسير الشجرة، ] إليه صلى الله عليه وآله وسلم ذكره ابن أبي الحديد رحمه الله تعالى في شرحه على النهج عند قول أمير المؤمنين: ولقد كنت معه إذ جاءه الملأ من قريش إلى قوله عليه السلام : ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: " يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله "، والذي بعثه بالحق نبياً لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد يقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وألقت بعضها الأعلى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أغصانها على منكبي الخ القصة.(1/659)
[ وإحيائه الموتى، ] ذكره الأمير الحسين في الينابيع، ونحوه أخرجه الناصر للحق عليه السلام ذكره المتوكل على الله عليه السلام عنه، وهو في أنوار اليقين عن أم سلمة رضي الله عنها بخبر طويل قالت: "أتى نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أحدهم اتخذ الله إبراهيم خليلاً فأي شيء اتخذك؟ قال: اتخذني صفياً والصفي أقرب من الخليل، وقال الثاني:كلم الله موسى فقال: "كلم موسى في الأرض وكلمني تحت سرادق العرش، وقال الثالث: كان عيسى يُحيي الموتى فنادى علياً فكلمه بكلمات لم أسمعها، فخرج بهم علي عليه السلام وأنا معهم وانطلق بهم إلى قبر يوسف بن كعب، فتكلم بكلمات فتصدع القبر فإذا شيخ ينفض التراب عن رأسه ولحيته وهو يقول: يا أرحم الراحمين، ثم التفت إلى القوم كأنه عارف بهم ثم قال: ويلكم أكفر بعد إيمان أنا يوسف بن كعب صاحب الأخدود" الخبر بطوله.(1/660)