فنقول: لما كان الكلام فيه بالنظر إلى ما قبله وهي قصة قوم لوط من باب الفصل ذكره بلا عاطف يقتضي وصل هذا الكلام بما قبل فقال: ?قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى?{النمل:59}، ولم يقل: وقل الحمد لله، ولم يقل: وقل سلام، لأنه لم يسبق أمر بقول ولا غيره فيعطف هذا عليه، فجرد الواو عن قوله: ?قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ?، وأتى به في قوله: ?وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ? وحذف الأمر بقل في: ?وَسَلامٌ? فيما شمله الأمر، بالقول الأول فالتقدير: قل الحمد لله وقل سلامٌ على عباده الَّذِينَ اصْطَفَى، وقابل التعريف بالتنكير لأن المقصود من الحمد الشمول والاستغراق، والمقصود من السلام التعظيم دون الشمول والاستغراق، لأن السلام لا يختص به المصطفون من العباد كالملائكة والأنبياء والأوصياء والأئمة بل يشاركهم فيه سائر المؤمنين، إلا أنه في حق المصطفين سلام أي سلام يعني سلام عظيم المقدار جليل الاعتبار لا يناله إلا الذين اصطفى، والمراد بالسلام هاهنا التبجيل والتعظيم والتشريف والتفخيم لا مجرد السلامة من العقاب والذم والاستخفاف فذلك داخل ضمناً فيما ذكر من التبجيل ونحوه، لذلك لم يقل: وسلام على عباده المؤمنين ولا عطف المؤمنين على الذين اصطفى، فيقول: وسلام على عباده الذين اصطفى وعلى المؤمنين، لئلا تفوت كلمة التعظيم الذي هو للمصطفين على سائر المؤمنين، ولئلا يكون ذلك شبهة للجبابرة وأهل العصيان في دعوى الدخول في التسليم بأنهم من جملة المؤمنين، ثم قال: ?ءآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ?{النمل:59}، لم يذكر الخيرية فيماذا ليعم الخيرية من جميع وجوهها من كونها خيرية كرم ورحمة وعدل وإنصاف وخلق ورزق وصلاح دين ودنيا وإكمال معايش الحيوانات وغير ذلك، فأورد السؤال على المشركين وهو داخل في معمول قل فكأنه تعالى قال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: قل الحمد لله، وقل سلام، وقل الله خير أم الآلهة التي(1/651)


تشركون من الأصنام بدعوى إلاهيتها. وحيث أن البرهان العقلي قد قضى بخيريته تعالى على سبيل العموم، فقد قضى بنفي الخيرية عنها على سبيل العموم، فيفيد هذا السؤال أن الله تعالى خير في جميع الأمور، ولا خيرية في الأصنام رأساً في أي أمر كان، وأتى هنا بما لأن المراد بها ما لا يَعقل وهي الأصنام، فإن فرض قصد التعميم لكل ما عُبد من دون الله كما عبدت النصارى المسيح عليه السلام ، وكمن يعبد الملائكة، وكما عبد أصحاب فرعون وأصحاب النمرود فرعون والنمرود، فذلك من باب التغليب وهو نوع من البديع فغلب الأكثر وحذف العائد ليعم كل مشرك به وتكون الخيرية المحكوم بنفيها بالنظر إلى عيسى والملائكة عليهم السلام إضافية -أي بالنظر إلى خيرية الله تعالى- وما تنفرع عليه من التوحيد واستحقاق العبادة وفعل الخلق والرزق ونحوه، لا مطلقة كما في الأصنام ومن عبد من الجبابرة، لأن في عيسى والملائكة من الخير ما لا يُقَدَّر قدره غير أنه لا خيرية في دعوى إلاهيتهم ولا عبادتهم ولا غير ذلك مما يتفرع على الإلهية.(1/652)


فتأمل كم حوت هذه الآية من النكت العجيبة والفوائد الغريبة والمعاني المنيفة والأسرار اللطيفة مع الإيجاز الذي لا يماثل والاختصار الذي لا يساجل، ثم لما كان المعلوم من حال المشركين أنهم عند هذا السؤال يعدمون الجواب لأنهم إن أجابوا أن الله خير لزمهم الخروج عن عبادة الأصنام ودعوى إلاهيتها، وإن أجابوا أنها خير فقد قالوا: ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?{الزمر:3}، فترك عز وجل أن يحكي لهم جواباً يقولونه كما حكاه عنهم في آية ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ? بقوله ?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?، ولم يأمر الرسول بالجواب كما أمره في قوله ?قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ?، لأن المقام في هذه الآية لا يقتضي أحد الأمرين لعدم وجود الجواب عندهم لما ذكرنا من التعليل ولعدم صحة أن يقال قل الله خير لأنه نفس المدعى، ولم يقرن قبله بما هم مقرون به حتى يكون برهانه كما في ?قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ?، فلما كان الأمر كذلك مع علمه عز وجل إصرارهم على عبادة الأصنام واعتقاد إلاهيتها أخذ عز وجل في محاججتهم ومناظرتهم بالآيات المسرودة بعد هذه الآية إلى قوله ?فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ?{الأعراف:190}، وذكر فيها عز وجل من الحجج الظاهرة والآيات الظاهرة إحدى وعشرين حجة بين أجناس عامة يدخل تحتها ما لا حصر له من الأنواع والمفردات، وبين أنواع عامة تتناول ما يدخل تحتها من المفردات المتفقات والمختلفات ما لا حصر له وبين جزئيات تتناول ما وضعت له وما ماثله في حقيقته وماهيته، وقدم الأعظم منها فالأعظم والأفهم فالأفهم كون ذلك أبلغ في اللطفيّة وأنجع في الوعظية على أن كلها عظيمة وجميعها فهيمة وحجتها قويمة، وضم كل من تلك الحجج إلى ما يشاكلها ويناسبها في العطف ويناسقها في المعنى، وجمعها في آية أحسن مبدأها ومختمها وفاصلتها وأتقن مبناها(1/653)


ومساقها تالية لمماثلتها، وأورد كل آية مصدرة بأم ومن ليفيد السؤال التوبيخي وطلب التعيين من فاعل تلك الأفعال العظيمة هل الله تعالى أم الأصنام ؟ وختم هذه الآية بما يقتضي عنادهم وتمردهم وذمهم على ذلك بأبلغ وجه فقال عز من قائل في الآية الأولى ?أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ?{النمل:60}، فذكر في هذه الآية ست حجج لا يقدر الخصم على إنكار شيء، منها: وجوده في ذاته، ولا أن شيئاً غير الله تعالى يقدر على شيء منها.
وقال في الآية الثانية: ?أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ?{النمل:61}، فذكر في هذه الآية أربع حجج، وصدر الآية الأولى بالخلق وهذا بالجعل لما كانت الأولى لبيان موجد ذات السماوات والأرض ونحوهما، والثانية لما تضمنته من تصيير الأرض على تلك الأحوال، ومن جملتها وأعظمها آية أن جعل بين البحرين حاجزاً مع كونهما معاً من المائعات التي من شأنها الاختلاط، وذكر الجميع في الآيتين بصيغة الماضي كون ذلك قد وقع وإن كان فيها ما يستمر كإنبات الأشجار وإجراء الأنهار بخلاف الآيات التي ستأتي فأكثرها للحال أو الاستقبال فجعلها بصيغة المضارع.
فقال في الآية الثالثة: ?أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ?{النمل:62}، فذكر في هذا الآية ثلاث حجج متناسبة المعاني متناسقة المباني.(1/654)


وقال في الآية الرابعة: ?أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أءلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ?{النمل:63}، فذكر في هذه الآية أربع حجج كلها عظيمة الإنعام جليلة القدر عند أولي الأفهام.
وقال في الآية الخامسة: ?أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ?{النمل:64}، فذكر في هذه الآية أربع حجج كلها واضحة الاحتجاج، ظاهرة الابتهاج.(1/655)

131 / 311
ع
En
A+
A-