فَاعْبُدُونِ?{الأنبياء:25}،فلما سمى نفسه عز وجل أو عبادته الحق أو هما معاً أو الأول في الأول والثاني في الثاني، سمى الأصنام أو عبادتها بالضلال، وكان المشركون لا يكادون يفارقون اعتقاد إلهية الأصنام وعبادتها مع عدم المقتضي لها بعد إقرارهم بأن الذي رزقهم وجعل لهم السمع والأبصار وأخرج الحي من الميت والميت من الحي ودبر الأمر هو الله تعالى لا غيره، فكان من حقهم ومن اللازم عليهم أن ينصرفوا عن عبادة الأصنام إلى عبادة الله تعالى وتوحيده في الإلهية فقال: ?فَأَنَّى تُصْرَفُونَ?، وأتى فيه بصيغة المجهول ليدل على توغلهم وفرط محبتهم للأصنام وعبادتهم إياها حتى كأنهم أصنام لا ينصرفون عنها إلا بصرف صارف لهم عنها وكأنه أمر جِبِلّي فيهم وخِلْقَةٌ كناية عن المبالغة في ذمهم وعنادهم ثم قال: ?كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ?{يونس:33}، لما حكى عنهم في الآيتين التي قبلها أنهم لم يتقوا عقابه، ولم ينصرفوا عن عبادة الأصنام، حكم عليهم بالفسق وبعدم الإيمان، وأفاد أن هذا الحكم سنته وكلمته المحكوم بها على كل من فسق - إي أفحش في الخروج عن طاعته - وأن هذا الحكم حق منه عز وجل لا باطل ولا ظلم ولا جور ولا كذب فيه، فانظر إلى ما في هذه الآية من الحذف والتقدير والطي والنشر والاختصار والإيجاز والتشبيه والتأكيد وحسن السَّبك والمناسبة لما قبلها ومطابقة مقتضى الحال وعدم تنافر الكلمات والحروف وحسن التقفية والسجعة وغير ذلك مما اشتملت عليه مع قلة كلماتها وصغرها في ذاتها، ثم أعاد عليهم المحاججة على وجه وأسلوب آخر فقال عز من قائل: ?قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ?{يونس:34}، ولما كانوا منكرين الإعادة لم يحسن هاهنا أن يقول فسيقولون الله نظراً إلى إقرارهم أن الله هو الذي يبدأ الخلق كما حسن في الآية السابقة فسيقولون الله لأنهم فيما ذكر في(1/646)
الآية السابقة لم ينكروا شيئاً هاهنا هم مقرون بالبعض ومنكرون البعض الآخر، فلو قال فسيقولون الله لكذب الخبر، فقال معلماً ومرشداً لكل من وقف على السؤال ومثبتاً لرسوله في كيفية الاحتجاج بصحيح المقال: ?قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ?، والإعادة وإن كانت محل النزاع بينهم وبينه صلى الله عليه وآله وسلم فلا يصح أن يسلك فيها مسلك الدعوى المحض بقوله: ?ثُمَّ يُعِيدُهُ?فقد قرنت بما يدل على صحتها قطعاً وهم موافقون عليه وهو أنه تعالى يبدأ الخلق فنظم الجميع في سلك الجواب وقال: ?قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ?، فكما أنه لا سبيل لهم إلى إنكار بدء الخلق لا سبيل لهم إلى إنكار الإعادة لأن شأن الإعادة في جميع الأفعال أيسر من شأن البداية كما قال تعالى: ?وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ?{الروم:27}، فقياس النشأة الأخرى على النشأة الأولى قياس جلي عقلي يكاد أن يلحق بالضروريات لعدم الفارق بل هو من باب الأَولى، ثم قال: ?فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ?، فكيف تصرفون عنه تعالى وعن توليه إلى غيره؟ فانظر إلى بلاغة هذا الكلام وفصاحته وجزالة ألفاظه واشتماله على البرهان بأقرب بيان وأوضح تبيان وخروج الجواب على مقتضى الحال، ثم قال عز من قائل: ?قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?{يونس:35}، فهذه والتي قبلها سمى الأصنام شركاء تنزلاً لهم على زعمهم أنها آلهة مع الله مشاركة له في الإلهية لينبني عليه وجه المحاججة كأنه قال: سلمنا كونها شركاء فهل يصح منها أن تهدي إلى الحق ؟ لا يصح فلما كان تقدير الكلام هكذا صار كأنه قيل بعد ذلك فمن ذا يهدي إلى الحق ؟ فأجاب عن هذا السؤال بقوله:(1/647)
?قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ?، وأضاف الشركاء إليهم والحال أنهم لا يقولون إنهم مشتركون هم وإياها في الإلهية واستحقاق العبادة، وإنما يزعمون أنها شركاء لله في ذلك لكونهم القائلين بهذا القول ولم يقل قل هل من شركائي يعني على زعمكم لما فيه من ظاهر الإقرار بأنها شركاءٌ له عز وجل وعد السؤال في قوله: ?مَنْ يَهْدِى? بإلى والجواب باللام ليفيد تخفيف المسئول عنه وتحقيره وعظم المجاب به وتكثيره فكأنه قال: هل من شركائكم من يصدر منه أدنى هداية وأقل إرشاد إلى الحق - أي موجه ذلك الإرشاد إلى الحق- سواء أوصل إليه أم لا بل بمجرد الأخذ والشروع فيه ? قُلْ اللَّهُ يَهْدِي?فأتى باللام المفيدة الإيصال وإلصاق الهداية بالحق والتعظيم والتكثير والاختصاص علمت من تقديم المسند إليه ووضع الظاهر موضع المضمر حيث قال: ?قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ?، ولم يقل يهدي إليه الله أو يهدي إليه،ولما كان نفي الهداية من الأصنام ووجودها من الله تعالى قد علم بهذه الجملة، أخذ في محاججتهم وجدالهم بالنظر إلى نفوسهم وإلى نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال سبحانه: ?أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ? وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يهدي إلى الحق بمعنى يرشد إليه ويبينه كما قال تعالى: ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ?{الشورى:52}، وعداه بإلى لئلا يظن أن هذه مثل هداية الله تعالى في العظم والتكثير والإيصال أحق أن يتبع فيما يدعو إليه ويرشد ويبينه من توحيد الله تعالى وعبادته ?أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى? وهم المخاطبون وغيرهم مثلهم لذلك أتى بِمَن العامة في السؤال، فإنهم جميعاً لا يهدون إلى الحق -أي لا يدعون إليه ولا يبينونه-، لعدم علمهم به ولا يتأتى منهم ذلك إلا أن يبينه لهم ويدعوهم ويرشدهم إليه غيرهم، وإنما قلنا: إن هذه الجملة الأخيرة راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلى المشركين(1/648)
وليست كالأولى راجعة إلى الله تعالى وإلى الأصنام، لأنه لا معنى للاستثناء في حق الأصنام لأنه لا يصح أن يقال فيها أنها لا تهدي إلا أن تهدى لأنها جماد لا يصح فيها هذا المعنى، ولما كانت هذه المحاججة والمسألة المذكورة من أول الآيات ختم الكلام بما يعود إلى جميعها بأن أنكر عليهم الحكم في جميع ذلك بغير الصواب وبالغ في الإنكار حتى أخرجه مخرج السؤال عن ماذا غَيَّر عقولهم وقلبها حتى لم تدرك الحكم الصحيح في هذه المعدودات مع كونها بين مصادق به وبين قائم برهانه فقال: ?فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?.(1/649)
فانظر أيها المطلع وفقك الله تعالى وإيانا، هل وجدت كلاماً في أكاليم البشر من سلف منهم ومن غبر هل تجد فيه ما يداني هذا الكلام أو يقرب إليه في كثرة جمله واختصارها، وإفادتها لكل معنى مراد، واحتراسها عن كل معنى لا يراد، لما فيه من الفساد وتناسق العطف بينها ومناسبته فيما عطف منها، وقطع العطف فيما لم يحسن منها، وخروج الكلام في كل جملة منها على مقتضى الحال بحيث لا يزيد على المعنى المراد منها ولا ينقص منه شيئاً، وجزالة الألفاظ وسلامتها عن الغرابة والوحشة ومخالفة القياس وتناسبها وتناسب حروف كل جملة منها حتى لا يستثقل من النطق شيء منها، واشتمالها على ما يفوته التعداد من أنواع البدائع كما قد أشرنا إلى بعض من ذلك وحسن الإبتداء والتخلص واشتماله من المحاججة القولية مع البراهين العقلية على إثبات الصانع جل وعلا، وعلى كمال صفاته سبحانه وتعالى، وإثبات توحيده وعدله وحكمته بما لا يبقى معه شغب لمشاغب ولا ريب لمرتاب إلا على وجه العناد وعدم الإدراك للحقائق، فأين تبلغ فصاحة المفلقين من فصاحة هذا الكلام! وأين يتاه ببلاغة المصقعِين عن بلاغة هذا الإلمام! وأين تبلغ أدلة المتكلمين ومقدمات المنطقيين مما بلغ إليه هذا المقال من البرهان وما قطعه من شبه أهل الضلال والبهتان! فسبحان من خلق سيد الكلام وأحكم آيه أَيِّ إحكام، فهذا ما ظهر في الشاهد الأول لناقص الفهم وقاصر العلم.
وأما الشاهد الثاني: فشأنه أبهر وبراهينه أظهر وفوائده أكثر، فلا نطيل الكلام في نشر ذلك مع وضوح أكثر ما هنالك، غير أنا نذكر ما لا بد منه ونحيل العلم بما عداه على القياس بما ذكر في الشاهد الأول.(1/650)