إلى حين التمييز، [ ثم ] يصير [ غلاماً ] إلى حين البلوغ، [ ثم بالغاً، ثم شاباً، ثم كهلاً ] وهو ما بين الشباب والشيخوخة أو من بلغ الأربعين، [ ثم شيخاً ] وهو من طعن في السن وجاوز الستين السنة، ثم إذا بقي بعد ذلك وبلغ الثمانين صار هِمَّاً ضعيفاً قد سلب أكثر الحواس وقلَّت معه لذة المأكل والمشرب وسائر المشتهيات اللذيذة وربما ذهب سمعه وبصره وإعقاله المعقولات ورُدَّ إلى أرذل العمر كما قال تعالى: ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ?{النحل:70}، [ ونحو ذلك ] أي نحو خلق الإنسان وسائر المخلوقات [ من هبوب الرياح ] والهبوب - بالضم - مصدر هب يهب يقال هبت الريح تهب هبوباً والرياح جمع ريح وتجمع على أرواح لأن الأصل رِوْحٌ فقلبت الواو إلى ياء على القاعدة، وحقيقة الرياح حركات متداركة على الهواء وهي أربع: شمال: وهي الآتية من جهة الشام إلى جهة اليمن، وجنوب: وهي بالعكس من ذلك، وصبا: وهي الآتية من جهة المشرق إلى جهة المغرب، ودبور: وهي بالعكس من ذلك، يجمعها قول الشاعر:
شملت بشام والجنوب تيامنت .... وصبت بنجد والدبور بمغرب
وكل ريح اعترضت بين ريحين كالآتية مما بين المشرق والشام يقال لها نكبا، قال شيخنا صفي الإسلام رحمه الله تعالى ودلالتها على الله ظاهرة لأن هبوها حال [ وسكونها ] حال [ بعد ] الأول، فلابد من فاعل لذلك.(1/61)
قلت: وكذلك اختلافها في جهاتها وشدتها وخفتها وسرعة [ هبوبها ] وبطئه، وتارة بالرحمة وتارة بالنقمة، وعاصفة ورخاء كل ذلك أحوال تفتقر إلى فاعل يفعلها على ذلك الحال دون الأخر، وكذلك اختصاصها بجهة دون جهة وببلد دون بلد ووقت دون وقت، وما فيها من المنافع من تلقيح الأشجار وتنسيف الزرع بعد دياسه لاستخراج الحبوب وفصلها عن القشر ونحوه، وتسخيرها في البحر لتجري الفلك بأمره، فسبحان من تنزه عن فعل العبث وأحاط بكل شيء حكمة وتدبيراً، واستغرق كل شيء إحكاماً وتقديراً، واستوعب كل مخلوق مشيئة وتأثيراً، [ و ]كذلك [ طلوع الكواكب ] وهي النجوم [ بعد أفولها ] بعد أن غربت [ وأفولها بعد طلوعها ] وتسييرها في الأفلاك مع اختلافها في سرعة السير وبطئه وبعضها باهٍ منير، وبعضها واهٍ يسير، والبعض بتفاوت كثير وجهاتها في مشارقها ومغاربها، فبعضها في جهة اليمن كسهيل ونحوه، وبعضها في جهة الشام كالقطب ونحوه، وبعضها فيما بين ذلك، وكذلك اختلاف أوقات طلوعها وغروبها في فصول السنة الأربعة، واختصاص كل فصل منها بسبعة نجوم يختص كل نجم بمنزلة تحلها الشمس ثلاثة عشر يوماً إلا الذراع فأربعة عشر يوماً كل يوم تطلع الشمس وتغرب في درجة متوسطة بين ما قبله وما بعده في القرب إلى الجهة التي تدخل فيها أو ترجع منها من جهتي اليمن والشام حتى تصل إلى الموقف فيها، ثم ترجع كل يوم في درجة حتى تخرج من تلك الجهة وتدخل في الجهة الأخرى حتى تصل الموقف فيها ثم كذلك مدى الدهور والأعوام إلى ما شاء الله، والقمر تحل في كل منزلة ليلة واحدة ويتزايد جرمه ونوره في كل منزلة بعضاً من الزيادة حتى يصير بدراً كاملاً، ثم يتناقص في كل منزلة بعضاً من النقص في جرمه ونوره ? حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ?{يس:39} ?ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ?{يس:38}، [ و ]كذلك [ ظهور السحاب ] المسخر بين السماء والأرض، فإنا نراه يحدث ويوجد بعد أن لم يكن له وجود(1/62)
عين ولا أثر، فظهوره بعد العدم لمحض آية دالة على فاعل حكيم، [ وزواله ] آية أخرى دالة على قادر عليم، وكذلك اختلافه في القلة والكثرة، وتصريفه في الجهات، واختصاصه ببعض الجهات دون بعض، وسيره من جهة إلى جهة على اختلاف ذلك السير في السرعة والبطء، وزيادة تطبق جميع الأفق، وتارة أسود مظلم، وتارة أبيض يَقِق، وتارات فيما بينهما، وقد يكون إلى حمرة أو صفرة، وقد يكون مصحوباً بالمطر، وقد يكون من دونه، وقد يكون متراكماً غليظاً، وقد يكون متفرقاً رقيقا، ومع ذلك فله أشكال وهيئات لا تضبط بوصف ولا عبارة، قيل: إن أصله غبار تثيره الرياح من تراب الأرض قال تعالى: ?اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ?{الروم:48} وليس في الآية تصريح بأن الرياح تثيره من نفس التراب ولا مانع فالقدرة صالحة لذلك ولإيجاده من العدم المحض، ثم تثيره الرياح أي تنشره في الأفق. [ وكذلك المطر ] فإن فيه آيات عديدات ودلائل مفيدات على إثبات الصانع المختار ففي اختلاف ذاته من الكثرة والقلة ووفارة القطرة وحُقْرِها آية دالة على اختيار الفاعل لها، وكذلك اختلافه في الأمكنة والأزمنة، وتردده وانقطاعه على حسب مصالح العباد والاحتياج والاستغناء، وتارة غيثاً هنيئاً، وتارة مصحوبا بالعواصف والصواعق وصوت الرعد المختلف بين شدة وخفه وتوسط وجهة دون جهة فسبحان من ?وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ?{الرعد:13}، يريد أن الكفار يجادلون في جحد الله تعالى وإنكارهم إياه واقتداره وتدبيره مع ما أراهم من هذه الآيات الباهرات التي لا يقدرون على إنكار وجودها ولا تقبل العقول فاعلاً لها غيره، فما سولت لهم أنفسهم وزخرفته لهم(1/63)
الشياطين من نسبة ذلك إلى غيره تعالى من العلل والطبائع وسائر المؤثرات التي زعموها مُمَاكَرَةٌ منهم ومماحلة: وهي شدة المكايدة والمجادلة، والله شديد المحال بالحجج وإتيانهم بالنقمة من حيث لا يحتسبون، وشبه المماكرة والمكايدة بجامع الإتيان من خلاف ظاهر الأمر، فإطلاق ذلك على الله تعالى مجاز كقوله تعالى: ?وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا?{الشورى:40}، واختلف في المطر فقال الهادي والحسين بن القاسم العياني عليهما السلام: أنه يخلقه الله تعالى ويُكَوِّنه فيما بين السماء والأرض وقالا: السماء ما ارتفع، ويدل على هذا ظاهر قوله تعالى: ?اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ?، وقال زيد بن علي عليهما السلام والجمهور: بل من السماء لقوله تعالى: ?وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا?{الفرقان:48}، والآيات في ذلك كثيرة، وقال محمد بن القاسم بن إبراهيم: قال شيخنا رحمه الله تعالى وقيل إنه روي عن القاسم عليه السلام : أنه تأخذه السحاب من البحر وقال رحمه الله تعالى واعلم أن في القرآن التصريح بأن الماء ينزل من السماء إلى السحاب ثم تمطر - يعنى كما يقوله زيد بن علي عليهما السلام - ثم قال: ويدل عليه ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السُّدِّي قال: إن الله يرسل الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين - طرفي السماء والأرض - من حيث يلتقيا فيخرجه من ثمة، ثم تنشره فتبسطه في السماء كيف يشاء، ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب، ثم تمطر السحاب بعد ذلك قال: ويدل عليه قول أمير المؤمنين عليه السلام : أما بعد: فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر، والله أعلم بالحقيقة انتهى كلامه والمسك ختامه.(1/64)
قلت: لا مانع والله أعلم من صحة كل واحد من هذه الأقوال، فليس فيما يدل على أحدها دلالة على نفي ما عداه، والله أعلم.
[ و ]كذلك [ النبات ]: ما ينبت ويخرج من الأرض من المرعى وغيره، [ و ]كذلك [ الثمار المختلفات ]: زرعاً ونخيلاً وأعناباً وقضباً وزيتوناً ونحو ذلك من الاختلاف الذي يتعذر أو يتعسر حصره، [ وكل ذلك ] أي وجودها مع اختلافها [ دلائل الحدوث ] وهو أن وجودها بعد عدم.(1/65)