[ ولأن القرآن مشتمل على الإخبار عن الغيوب المستقبلة، ] كقوله تعالى عام الحديبية: ?لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ?{الفتح:27}، وكان ذلك سنة ست من الهجرة، ثم وقع ذلك في عام الفتح وكانت سنة ثمان أو في عمرة القضاء وكانت سنة سبع وهو الأظهر، لأنهم ما كانوا في عام الفتح متلبسين بإحرام يتفرع عليه الحلق والتقصير، وإنما كانوا مدرعين ومتقلدين الأسلحة وكانت الدروع على بعض منهم غامرة جميع جسده حتى لا يرى منهم سوى حدق العيون كما ذلك مذكور في كتب السيرية النبوية على صاحبها وعلى آله أفضل الصلاة والسلام [ وعلى الإخبار عن الأمور الماضية، ] كما أخبر سبحانه وتعالى عن قصص الأنبياء السابقين وإهلاك مكذبيهم وغير ذلك من أخبار الماضين، ثم تتبعنا كتب التواريخ القديمة الحاكية لسيرهم وأخبارهم [ فكان الأمر على ما أخبر في الماضي والمستقبل، ] ولم يكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ممن يكتب ويقرأ المكتوب، ولا نُقل عنه أنه كان يختلف إلى علماء التاريخ في عصره صلى الله عليه وآله وسلم ولا أنه أتى إليه أحدهم فأخبره بذلك، فدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم علمه بذلك مع المطابقة للواقع بما كشفت لنا عنه كتب التواريخ ليس إلا من باب الوحي لأنه إخبار عن المغيبات في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أشار الله تعالى إلى معنى هذا بقوله تعالى: ?وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً?{العنكبوت:48}، أي لو كنت تتلو كتاباً أو تخطه بيمينك لارتاب المبطلون -أي لو وجدوا موجباً للريب وارتابوا استناداً إلى ذلك-، لأنهم كانوا مرتابين بلا سبب كما قال تعالى: ? فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ? {التوبة:45}، بل لمجرد العناد وإيحاء بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً كما قالوا ?إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ(1/641)


بَشَرٌ?{النحل:103}، وهو عايش أو يعيش أسلم وحسن إسلامه وكان صاحب كتب،وقيل في اسمه غير ذلك، فأبطل مقالتهم بقوله: ?لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا? أي القرآن ?لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ?{النحل:103}، فكيف يتأتى صحة قدحهم مع أن لسان الذي يلحدون إليه أي ينسبون إليه أنه علمه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن بخلاف لسان القرآن، فالريب المنفي عنهم لانتفاء كونه صلى الله عليه وآله وسلم يتلو كتاباً أو يخطه هو الريب عن سبب ظاهر والريب الذي هم فيه هو الريب لا عن سبب، فلا تعارض فيما يدل عليه الكتاب العزيز [ فَدَلَّ ذلك ] أي المذكور من العجز والإخبار عن المغيبات مع المطابقة [ على كونه ] أي القرآن [ معجزاً، لا يقدر عليه أحد من البشر. ]، وقد اختلف في وجه إعجاز القرآن، فالمختار عند أئمتنا عليهم السلام على رواية الأساس والجمهور على وروايته أيضاً ومنهاج القرشي: أنه الفصاحة والبلاغة الخارقة لما يُعتاد حتى أنه بلغ في ذلك المرتبة التي لا يقدر البشر أجمع على كلام يماثل القرآن أو يدانيه في تلك الفصاحة والبلاغة،وقيل: بل إعجازه في إخباره عن الغيب، وقيل: كون قارئه لا يكل وسامعه لا يمل، وقيل: سلامته من التناقض والاختلاف، وقيل: أمر يُحسُّ به ولا يُدرك. وكأنه يريد هذا القائل حلاوة تلاوته واستماعه، وقيل: الصرفة. أي كون الله عز وجل صرف الخلق عن أن يأتوا بمثله، ولا مانع من هذه الأوجه أو بعضها منضماً إلى الأول فلا حاجة إلا الاشتغال بإبطالها كما هو عادة كثير من المؤلفين رحمهم الله تعالى.
ولنذكر شاهدين من آي الكتاب التي يعلم بها بلوغ القرآن أعلى درجةً في الفصاحة:(1/642)


أحدهما: قوله تعالى: ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَoفَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ?الآيات إلى قوله: ? فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ? {يونس:32،31}.(1/643)


الثاني: قوله تعالى: ?قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَoأَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونoَأَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ? الآيات إلى قوله: ?قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ?{النحل:59-64}، فإن هذه الآيات بلغت من الفصاحة والبلاغة ما لا يمكن التعبير عنه بألسنة الأقلام، ولا تدرك غوره غويصات الأفهام حيث تضمنت إخراج الكلام على مقتضى الحال حتى بلغ في المحاججة المبلغ الذي يذعن الخصم وتنقطع حجته ويقر بالله تعالى وأنه الخالق وحده، فيقال له بعد ذلك ?أَفَلا تَتَّقُونَ?،?مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?، ومن حيث جمع في هذا الكلام اليسير جملة أدلة عديدة مفيدة وأوردها على العبارات التي لا تفتقر إلى تصحيح بإقامة برهان حتى صارت كل جملة منها قائمة الأركان غنية عن البرهان ظاهرة المعاني والبيان مستقلة الدلالة والاحتجاج مقرونة بما يناسبها من المعطوفة عليه أو معطوف عليها في الوضوح والابتهاج وشروط العطف، حيث أتى في الشاهد الأول بصيغة المضارع لأن المقام يقتضيه إذ هو محاججة في شأن الرزق الواقع على المخاطبين وهو حاصل في الحال والاستقبال فقال: ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ?، وسلك مسلكاً لا يقدر الخصم على إنكاره فقال: ?منْ السَّمَاءِ?، وأراد به المطر، وعطف عليها الأرض وأراد جميع النباتات المسببة عن المطر ثم عطف الجمل الآخرات بصيغة المضارع وأتى فيها بالأفعال التي لا يقدر عليها غيره فقال:(1/644)


?أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ?، فإن في هذه الجمل الخمس من الإيجاز والاختصار مع عدم الإخلال بشيء من المعنى المراد وإيراده على أبلغ الوجوه في الشمول والوضوح ومراعات النظير ورد الصدر على العجز فيما يحتاج إليه كقوله: ?يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ?، وتركه فيما لا يحتاج إليه، والحذف فيما يلزم ليصح العموم معه في قوله: ?وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ?، فيشمل كل أمر أي شأن من أحوال السماوات والأرضين أو الحيوانات أو النباتات أو النبوات أو الشرائع وجميع ما يتعلق به التدبير، وكذلك ما بعد هذه الآية إلى قوله: ?فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ? أتى فيها بصيغ المضارع ليناسب الجملة الأولة، لأن من شرط حسن العطف وصحته أن يعطف المضارع على المضارع والماضي على الماضي والأمر على الأمر فلا يقال: سيقوم زيد وقام عمرو أو وقم يا عمرو، ثم ختم كل آية بالفاصلة المناسبة للجمل المذكورة فيها فقال في الأولى ?أَفَلا تَتَّقُونَ? أي أفلا تتقون عقابه حيث تعبدون من دونه أصناماً لا تفعل شيئاً مما ذكر من الرزق وما بعده، وقال في الثانية: ? فَأَنَّى تُصْرَفُونَ?لما قال فيها ?فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ?، فسمى نفسه عز وجل الحق، وسمى الأصنام الضلال، وسمى عبادته الحق وعبادة الأصنام الضلال، وإن لم تذكر العبادة فهي المرادة من إرسال الرسول بالمحاججة على التوحيد أولاً لكونه شرطاً في صحتها، ثم على استحقاقه تعالى إياها ثانياً لكونه المنعم بما ذكر في تلك الآية وغيرها من النعم، يدل على هذا قوله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا(1/645)

129 / 311
ع
En
A+
A-