[ و ]الأصل الثالث: قوله و [ أنه ] أي القرآن [ مشتمل على آيات التحدي، ] مأخوذ من الحادي وهو إنشاد الكلام المزعج والمحرك للإبل على السير الحثيث حتى يعرف بذلك القوي منها من الضعيف ويتبين عجزه عن مثل سير القوي، ثم استعمل في طلب الإتيان بمثل الكلام المحتج به على الغير ليتبين عجزه أو اقتداره.
[ و ]الأصل الرابع:قوله و[ أنه كان يتلوها على المشركين ] في المجامع والمحافل، بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يأتي الواحد منهم والاثنين إلى مكانه فيتلو عليه ذلك، [ و ] الحال أنهم كانوا [ هم النهاية في الفصاحة، ]: وهي المَلَكَة في النفس والاقتدار على التعبير عن المراد من الكلام، وإيراده على مطابقة الحال وسلامته عن التعقيد والغرابة ومخالفة القياس وتنافر الحروف.
[ و ]الأصل الخامس: قوله و[ المعلوم ضرورة شدة عداوتهم ] أي المشركين [ له صلى الله عليه وآله وسلم. ].(1/636)


ولما كانت هذه الأصول الخمسة معلومة ضرورة من جهة التواتر لم يحتج شيء منها إلى تصحيح ببرهان يثبته لأن ذلك من شأن النظريات لا من شأن الضروريات، وكان أصل المسألة مبنياً على ما صدرت به من أنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالمعجز عقيب ادعائه النبوة لا يعلم إلا استدلالاً أخذ في تقريره بالدليل القاطع فقال: [ وإنما قلنا بأنه ] أي القرآن [ معجز. لأنه تحداهم على أن يأتوا بمثله ] فقال: ?أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَا يُؤْمِنُونَoفَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ?{الطور:34،33}، [ فعجزوا، ]، ويؤكده قوله تعالى: ?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?{الإسراء:88}، أي عوناً ونصيراً، وهذه هي المرتبة الأولى من مراتب التحدي، فلما عجزوا عنها وهي الإتيان بمثل جميعه أرخى العَنان معهم في المساجلة والمناظرة لتقرير الحجة عليهم وزيادة في إيضاح عجزهم، فأنزلهم إلى مرتبة دونها أيسر وأسهل عليهم من الأولى لو قدروا على الإتيان مثل أيهما وهي ما ذكره عليه السلام بقوله [ ثم تحداهم على أن يأتوا بعشر سور من مثله ] فقال تعالى: ?أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ?{هود:13}، [ فعجزوا، ] أن يأتوا بعشر سور وهذه هي المرتبة الثانية، [ ثم ] لما عجزوا عنها أنزلهم مرتبة ثالثة هي أيسر ما يكون لو قدروا عليها وهي أنه صلى الله عليه وآله وسلم [ تحداهم على أن يأتوا بسورة من مثله ] فقال حاكياً عن الله تعالى: ?أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بسُوَرٍة من مِثْلِهِ?، وقال تعالى: ?وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ(1/637)


مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ?{البقرة: 23}، [ فلم يقدروا على ذلك، ]، ثم لما تحداهم بهذه الثلاث المراتب فلم يأتوا بأيها توعدهم الله سبحانه وتعالى وتهددهم وأخبر أنهم لا يأتون بمثل ذلك أبداً فقال: ?فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ?{البقرة:24}، قال شيخنا رحمه الله تعالى: هكذا ذكره المؤيد بالله والدواري وغيرهما من علماء الكلام، ولم يذكر الزمخشري إلا مرتبتين، ومن لم يعرف إمامة علي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل، وأن أبا طالب مسلماً فليس ببدع منه أن يهفو ويكبو وينبو انتهى كلامه والمسك ختامه.
[ و ]الأصل السادس: من أصول دليل المسألة ما أشار بقوله عليه السلام [ لأنهم لو قدروا على معارضته لشدة عداوتهم له ] صلى الله عليه وآله وسلم [ وعلمهم بأن معارضته بمثل ما جاء به ] من القرآن أو العشر السور أو السورة [ يبطل دعواه ] أنه نبي صادق [ لما عدلوا عنها ] أي المعارضة [ إلى ] الأمر [ الشَّاق من محاربته، ] صلى الله عليه وآله وسلم ومباينته التي آلت بهم إلى إتلاف النفوس وسبي الأولاد والنساء وإخراب الديار وأخذ الأموال بالمغانم في الحروب وقطع الميرة عليهم وأخذ تجاراتهم من الطرقات فيما عدا أوقات المهادنة كما ذلك معروف من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الأصل معلوم قطعاً، لكن العلم نظري وهو مبني على ثلاثة أركان:
أحدها: أن المعارضة تبطل ما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم من دعوى النبوة.
ثانيها: أن المحاربة ونحوها قد وقعت بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم.
ثالثها: أنه لا يتأتى منهم المحاربة ونحوها مع إمكان المعارضة لأنه لا يعدل عن الأخف المنجي إلى الأشق المتلف إلا لتعذر الأخف.(1/638)


لا يقال: إن السطوة كانت لهم وهو صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة وإن المحاربة وقعت منهم بعدها مع ظنهم الغلبة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يصح قولكم: لما عدلوا عنها إلى الشاق من محاربته.
لأنا نقول: إما أن السطوة كانت لهم وهو في مكة قبل الهجرة فهو وإن كان الأمر كذلك، لكن المشقة عليهم في تركه صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الدعوى التي لأجلها صار صلى الله عليه وآله وسلم يسب آلهتهم ويعيب دينهم ويدعوهم إلى الخروج منه، فالدواعي معهم متوفرة إلى ما فيه إفحامه وإبطال دعواه صلى الله عليه وآله وسلم وهو غرض باعث جداً على المعارضة لو أمكنت، فلما لم تحصل المعارضة إذ ذاك لم يتمكنوا من قتله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قد عصمه الله تعالى من الناس، وقضت حكمته عز وجل بوجوب حفظه ومنع الناس عنه إلى أن يكمل تبليغ ما بعث به علمنا عجزهم قطعاً، وأما أن المحاربة وقعت مع ظنهم الغلبة فقد كان أول حرب بينهم وبينه صلى الله عليه وآله وسلم وقعة بدر وفيها كانت نكايتهم وقتل صناديدهم وفَتَّ عضدهم، ثم كانت الوقعات بينهم وبينه صلى الله عليه وآله وسلم سِجَالاً، فلو أمكنهم المعارضة بعد تلك النكايات والمخاوف الشديدة لما عدلوا عنها قطعاً، وحينئذ فما وقع منهم من محاربته [ التي ] كانت بينهم وبينه صلى الله عليه وآله وسلم [ لا تدل على بطلان دعواه، فدل ذلك ] الإشارة إلى جميع ما سبق من الأصول الستة المذكورة وما ينبني عليه السادس من تصحيحه بما ذكر [ على كونه ] أي القرآن [ معجزاً ] وما أحسن والذ الاستشهاد في هذا الموضع بما ذكره السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير رحمه الله في منظومته الخلاصة في هذه المسألة حيث يقول ولله دره عليه السلام :(1/639)


وقلنا ابنَ عبدِ اللهِ أعني محمداً .... نبي حَبَاه اللهُ بالفتحِ والنصرِ
أتى بدليلٍ أعجزَ الخلق عن يدٍ .... ونَاظَرَ أبناءَ الفصاحةِ من مُضَرِ
كتابٌ عزيزٌ محكمُ الآي صادعٌ .... بأنواره الحسنى وآياته الزُّهْرِ
تحدى به مَن عارض الحقَ منهمُ .... فمالوا إلى قولِ الكهانةِ والسحرِ
وقالوا: افتراه قال: هاتوا نظيرَه .... سواء علينا المفتري فيه والمفْرِي
فحادوا إلى السيفِ الذي كان قَتْلَهُمْ .... به يومَ بدرٍ سَلْ عن السيفِ في بدرِ
وقول الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام في منظومته الرسالة الناصحة للإخوان في هذه المسألة ولله دره:
وعندنا محمد نبيُّ .... مهذبٌ مطهرٌ زكيُّ
اختصه بذلك العليُّ .... وجاء منه معجزٌ جليُّ
يعجز عنه كل ذي مقال .... مَنّاً من الواحد ذي الجلالِ
فصار في هامة بحبوح الكرم .... أيده ربي بإظهار العلمِ
أفضل من يمشي على بطن قدمِ .... وكل ذي لحم من الناس ودم
هذا وإن كانت المسألة مما لا يصح الاستشهاد عليها بكلام البشر بعد كلام خالق القدر إلا أن الأمر في ذلك من باب:
أعد ذكرَ نعمان لنا إنَّ ذِكْرَهُ .... هو المسكُ ما كررته يتضوعُ(1/640)

128 / 311
ع
En
A+
A-