[ فقل: ] نبيي [ محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ] وهذه المسألة هي الجامعة بين جميع فرق الإسلام، والفارقة بينهم وبين غيرهم من فرق الكفر، وهي ثانية الشهادتين اللتين هما سور الإسلام فيجب اعتقاد ذلك على كل مكلف،[ فإن قيل لك: ]هذه دعوى [ فما برهانك على ذلك؟ فقل: لأنه جاء بالمعجز عقيب ادعائه النبوة، وكل من كان كذلك فهو نبي صادق، ].(1/631)
المعجز
والمعجز: مأخوذ من العجز. قال في الأساس: هو ما لا يطيقه بشر ولا يمكن التعلم لإحضار مثله ابتداء سواء دخل جنسه في مقدورنا كالكلام أم لا كقلب العصا حية.
وقال القرشي: هو الفعل الخارق للعادة المتعلق بدعوى المدعي للنبوة على جهة المطابقة.
وكلا الحدين لا يخلو عن نظر، أما الأول فلعدم ذكر ما يخرج سائر أفعال الله تعالى التي لا تعلق لها بالنبوة كإنزال الأمطار ومجيء الليل والنهار فيزاد المتعلق بدعوى المدعي للنبوة، وأما الثاني فيقال: ما المراد بالعادة ؟ هل ما يعتاده الخلق المرسل إليهم وما يعتاده الرسول ؟ أو ما جرت به العادة من فعل الله تعالى ؟ والإبهام في التعريفات لا يصح ولأنه لم يخرج منه السحر، وأما الأول فخرج من قوله: ولا يمكن التعلم لإحضار مثله، فالحد الأول أصح مع الزيادة المذكورة وله شروط أربعة:
الأول: أن يكون من فعل الله تعالى أو ما يجري مجرى فعله، فالأول كقلب العصا حية وتسليم الحجر والشجر، والثاني كما حكى الله تعالى في خطابه لعيسى عليه السلام ? تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ?{المائدة:110} ?وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي? {المائدة:110}، وكتسليم الحيوانات التي ليس من شأنها الكلام لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: أن يتعذر على الخلق مثله، ليُعلم بذلك أن الله هو الفاعل ليحصل به التصديق لمدعي النبوة.
الثالث: بأن يكون له تعلق بالنبوة بأن يكون معرفاً بها كمخاطبة الحيوانات للرسول بقولها: يا رسول الله، أو أشهد أنك رسول الله، أو يخبر به النبي قبل وقته مما لا دلالة في العادة عليه، ثم يقع في وقته الذي عينه إن عين له وقتاً أو عند الحاجة إن لم يعين له وقتاً.(1/632)
الرابع: أن يكون مع بقاء التكليف فيخرج ما يظهر على الدجال من الأفعال الخارقة إن ادعى معها النبوة لأن المعجز لا يصح إلا لتعريف النبوة ولا نبوة إلا بتكليف، هكذا قيل في إخراج ما ظهر على الدجال وفيه نظر، لأن المروي أن عيسى عليه السلام ينزل فيقتل الدجال ويكون على شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويملؤها عدلاً، فدل على أن التكليف باق إذ ذاك فلا يصح ذلك، ويمكن إخراج ما ظهر على الدجال بأنه إنما يكون معجزاً مهما تعلق بدعوى النبوة، والدجال إنما يدعي الربوبية وبطلان دعواها معلوم عقلاً فإظهار الخوارق عليه لا مفسدة فيها، وإنما إظهارها بلوى من الله سبحانه لعباده كقصة العجل، فيبتلي المؤمن ليعظم أجره في الصبر على الإيمان بالله تعالى وتوحيده وتصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخبر به من أحوال الدجال فكان الأمر كما ذكر والله أعلم.
ويرد عليه أن في ظهوره على الدجال حط لمرتبة الأنبياء عليهم السلام.
فيمكن الجواب: بأن كون عيسى عليه السلام سيقتله ويعرف الخلق بكفره وحط منزلته عند الله تعالى، وأن ما ظهر على يده من الخوارق إنما هو من البلوى والامتحان على الخلق فلا حط مع ذلك لمرتبة الأنبياء عليهم السلام.
قال بعض أئمتنا عليهم السلام: ولا يجوز ظهور المعجز لغير الأنبياء عليهم السلام، إذ في إظهاره لغيرهم حط لمرتبتهم وتلبيس حال غيرهم بحالهم لو ظهر عليه.
وقال المؤيد بالله والمنصور بالله والمهدي وحكاه الأمير الحسين عن أهل البيت عليهم السلام والملاحمية: يجوز ظهور جنسه على الصالحين، قال المهدي عليه السلام : مما يدخله احتمال كإنزال الغيث عند استسقائهم وشفاء مرض من دعوا له به لا الخوارق العظيمة كقلب العصا حية وفلق البحر، وحمل الإمام عليه السلام كلامهم على الكرامات.
وقالت الإمامية: تجب للأئمة.
وقال عباد: تجوز على حجج الله في كل زمان.(1/633)
وقالت الأشعرية: تجوز على الكفرة ومن يدعي الربوبية لا من يدعي النبوة كاذباً.
لنا: ظهوره على غيرهم حط لمرتبتهم هكذا علله المانعون، ويمكن أن يقال: إنما يكون حطاً لمرتبتهم في ظهوره على الجبابرة والكفرة دون الأولياء والصالحين، وحجج الله في كل عصر فإنهم أتباع الرسل وكرامات الأولياء معجزات للأنبياء، ولكن قول الإمامية: تجب للأئمة، وقول الأشعرية: تجوز على الكفرة ومن يدعي الربوبية لا من يدعي النبوة كاذباً، معلوم البطلان من حيث الإيجاب عند الإمامية ومن حيث أنه لا يقبح من الله قبيح عند الأشعرية إذ لا دليل على الوجوب، وقد مر إبطال أصل الأشعرية المبني على هذه المسألة، ولا وجه لمنعهم ظهوره على من يدعي النبوة كاذباً إلا الفرار من الإلزامات التي تقدمت أول الباب من أنه لا يعلم على أصلهم النبي من المتنبي حيث أن علة قبح الفعل عندهم لا تقتضي إخراج مدعي النبوة كاذباً، بل يقتضي إدخاله في جواز ظهور المعجز على يده لأنه تعالى غير منهي ولا يقبح منه فعل ولا يسأل عما يفعل.
ثم اعلم أن الفرق بين المعجز والسحر مما يحتاج إليه وقد ظهر من الحد المحكي عن الأساس أن الفرق هو أن السحر يمكن التعلم لإحضار مثله بخلاف المعجز فلا يمكن.
ومن جملة الفروق: أن المعجز في نفسه هو كما يراه الناظر إليه، فإن عصا موسى عليه السلام انقلبت حية حقيقة وعِصِيُّ السحرة وحبالهم لم تكن حياتاً حقيقية، وإنما يخيل في عين الرائي أنها حيات وليس كذلك، ولهذا إن السحرة لما عرفوا أن عصا موسى عليه السلام صارت حية حقيقة تلقف ما يأفكون انقلبوا ساجدين و ?قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَoرَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ? {الأعراف:122،121}.(1/634)
ومنها: أن كثيراً من المعجزات يعلم ضرورة أنها من فعل الله تعالى كحمل الريح سليمان ومنطق الطير، وتسبيح الجبال مع داود، ونتق الجبل في حق موسى عليه السلام ، وتسبيح الحصى في كف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الأنبياء أجمعين، وقد ذكر القرشي رحمه الله تعالى فروقاً آخرات هي في التحقيق راجعة إلى ما ذكر.
[ فإن قيل: فما برهانك على أنه جاء بالمعجز عقيب ادعائه النبوة؟ فقل: المعلوم ضرورة ] من جهة التواتر بحيث لا منازع ولا متشكك في ذلك، وأطبق عليه الجميع من مثبتي نبوته وهم أهل الإسلام أجمع، ونافيها وهم الكتابيون وغيرهم من ملل الكفر [ أنه كان في الدنيا قبيلة تُسمى: قريشٌ، وأنه كان فيهم قبيلة تُسَمَّى: بنو هاشم، ] وهذا في الحقيقة لم يكن من أركان الدليل وأصوله التي لا صحة للدليل إلا باعتبارها، وإنما ذكره عليه السلام ليوضح به ويبين أصل هذا النبي الكريم ومحتد هذا الرسول الفخيم صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك قوله [ وأنه كان فيهم رجل اسمه محمد بن عبد الله، ] بن عبد المطلب بن هاشم، فإنما هو لبيان ذاته الشريفة المحكوم لها بالنبوة، وإنما الاعتماد في الدلالة هي الأصول المذكورة بعد هذه الجملة.
الأول: قوله [ و ] إن [ المعلوم ضرورة ] بالتواتر حسبما ذكر [ أنه ] أي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويصح أن يكون الضمير للشأن [ ادعى النبوة، ]، وهذا هو الأصل الأول من أصول الدليل على هذه المسألة.
[ و ] الأصل الثاني: قوله [ أنه جاء بالقرآن بعد ادعائه النبوة، ] المراد بالبعدية الترتيب الذهني إذ لا يمتنع أنه صلى الله عليه وآله وسلم تلا على أحد من المؤمنين أو الكافرين شيئاً من القرآن، ثم قال: إني رسول الله إليكم.(1/635)