قلنا: يجوز في العقل أن يكون في بعض الأفعال ما هو مصلحة وفي بعضها ما هو مفسدة مما لا يهتدي فيه العقل إلى حكم معين فيها، لأنا لم نقل إن جميع المصالح والمفاسد قد علمت على التفصيل، بل قلنا بعضها علم حسنه كالعدل والإحسان والصدق وشكر المنعم على الجملة ورد الوديعة وقضاء الدين وإرشاد الضال وإن كان ليس إلا من باب الأولى، وبعضها قضى بقبحه كأضداد المذكورة والقبح في عدم إرشاد الضال بمعنى الكراهة فقط فهو مجاز، وما عدا ذلك لم يدرك العقل فيه حسناً ولا قبحاً إلا بتعريف الرسل كالعبادات والمعاملات من أحكام النكاح والطلاق ووجوه الربا وغير ذلك فحسنت البعثة لذلك، ولا يخفى أن هذا الرد إنما يستقيم على قول العدلية دون المجبرة لتفرعه على إثبات التحسين والتقبيح العقليين.
لا يقال: بل هو مستقيم على أصل المجبرة بأبلغ مما ذكرتم.لأنهم يقولون: إن بعثة الأنبياء للتعريف بجميع المصالح وجميع المفاسد، فكان تعليلهم أعم فهو أبلغ في الاحتياج إلى البعثة.
لأنا نقول: قد أبطلنا هذا الكلام بما مر من أنه لا معنى للتعريف مع عدم القول بوجوب شكر المنعم عقلاً كما مر تقرير ذلك، ومع كون الفعل مخلوقاً في العبد وواقفاً وجوده وعدمه على الخلق وعدمه كما مر تقريره أيضاً، وبعد فلا معنى لتقسيم الأفعال إلى مصالح ومفاسد مع إنكار التحسين والتقبيح العقليين حتى تحسن البعثة للتعريف بها.
لا يقال: هذا لازم لكم لأنكم عللتم حسن النبوة بالتعريف بما لا يدرك العقل فيه حسناً ولا قبحاً.(1/626)
لأنا نقول: إن الرسل صلوات الله عليهم يعرفونا بما جوز العقل حسنه أو قبحه أو أن الأولى فعله أو أن الأولى تركه، فحسنت البعثة لتفصيل ما جوز العقل فيه المصلحة أو المفسدة أو الأولوية على الجملة وجهلها على التفصيل، فما عرفونا بوجوبه علمنا المصلحة في إيجابه، وما عرفونا بأن الأولى فعله علمنا المصلحة في ندبيته، وما عرفونا بحرمته علمنا المفسدة في فعله، وما عرفونا بأن الأولى تركه علمنا المصلحة في تركه ولا مفسدة في فعله، وما لم يذكروا له حكماً معيناً أو نصوا على إباحته حكمنا بإباحته فاندفع الإيراد، بخلاف المجبرة فإنهم أنكروا التحسين والتقبيح رأساً وجعلوا الفعل لله تعالى فلا معنى لتقسيمه إلى مصالح ومفاسد حتى تحسن البعثة للتعريف بها.
مسألة: وتحسن البعثة سواء كانت بشريعة مبتدأة، أو لتجديد شريعة مندرسة، أو لتأكيد ما قد علم عقلاً كمسائل التوحيد والعدل، أو لمجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلافاً لأبي هاشم ومن وافقه من الزيدية، فقالوا: لا تحسن إلا حيث يعلم بها ما لم يكن قد علم قبلها.
قلنا: لا مانع من حسنها في جميع ما ذكر.
قالوا: تصير عبثاً لأن التجديد والتأكيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم به غير الأنبياء عليهم السلام كالأئمة والعلماء، والعدل والتوحيد بعد ثبوتهما لدى المكلف لم يصر كلام النبي أبلغ في ثبوتها مما قد ثبتا لديه بالعقل.(1/627)
قلنا: إنما يصير الفعل عبثاً حيث عري عن غرض صحيح أصلاً لا إذا كان فيه غرض صحيح وإن كان غيره من الأفعال أو غير فاعله يقوم مقامه كالتعزيز بنبي ثان وثالث، ولقوله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ?{الأنبياء:25}، وقوله تعالى: ?هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ?{إبراهيم:52}، ولأن العقليات وإن علمت بالعقل ففيها الضروري والاستدلالي ولهوى النفس وعظم البلوى وغموض الدلالة النظرية قد يخطي النظر، وقد يحمل حب الرئاسة والكبر على ارتكاب القبائح العقلية وقد توقع شبه أهل الإلحاد والظلمة على الناظر فيخطي، وجه الحق في المسألة، فحسن بعثة الأنبياء لإثارة دفائن العقول فيما خفي والزجر عن مخالفة الحق فيما قد ظهر، وهذا لا إشكال فيه وهو مقتضى نصوص جمهور أئمتنا عليهم السلام وقواعدهم.
مسألة: قال القاسم والهادي والإمام وشارح الأساس وغيرهم من أئمتنا عليهم السلام وبعض الزيدية والمعتزلة والأشعرية: والنبي أعم من الرسول، لأن النبي من أوحي إليه بشرع أُمر بتبليغه أم لا، والرسول من أُمر بالتبليغ. وقال الإمام المهدي عليه السلام وبعض الزيدية وبعض المعتزلة كالبلخي: بل هما مترادفان فكل رسول نبي وكل نبي رسول، واستدل أهل القول الأول بقوله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ?{الحج:52}،وبالخبر المروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال: " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، فكم الرسل منها؟ فقال: ثلاث مائة وثلاثة عشر " ذكره في شرح الأساس عن الإمام المهدي عليه السلام في الغايات.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: الخبر حجة في الفرق والآية لا تدل لقوله: ?وَمَا أَرْسَلْنَا?، فالرسول فيها نبي.(1/628)
قلت: ويمكن أن يقال حذف عامل المعطوف اختصاراً أو استكفاءً بما يظهر من تقديره وأن التقدير: وما أرسلنا من رسول ولا أنبأنا من نبي، غير أن ذلك مجرد احتمال ولا يصح به الاستدلال فيما المطلوب فيه الاعتقاد دون الإعمال وعلى الترادف لم يظهر، وحذف للعطف حيث يصير التقدير: وما أرسلنا من رسول ولا أرسلنا من نبي، بخلاف التقدير المذكور، والله أعلم.
مسألة: قال الإمام المهدي وهو ظاهر كلام القاسم وهو قول البصرية ويصح أن يكون النبي نبياً في المهد، وقال به أبو القاسم البلخي، قال الإمام: وهو الأقرب أن ذلك لا يصح لأن النبوة تكليف ولا تكليف في المهد لعدم التمييز والقدرة إلا أن يجعلهما الله له فلا بأس لأن الله تعالى على كل شيء قدير. وقرر هذا الشارح بقوله: وأما كلام عيسى عليه السلام فإنما كان في تلك الحال لبراءة مريم عليها السلام من الريب، ثم رجع إلى حال الأطفال حتى بلغ وقت تكليمهم وتكلم فلما كمل عقله بُعث رسولاً، ومثل هذا ذكره الإمام القاسم بن علي العياني عليه السلام والزمخشري وغيرهما.
قلت: الأول يدل عليه ظاهر قول عيسى ?وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا?{مريم:31،30}، أي مدة حياتي إلا أنه لعدم نقل أنه عليه السلام قام بأعباء النبوة ونهض لمباشرة أعمالها وتحمل أثقالها يمكن تأويل الآية على تنزيل ما سيحصل منزلة الحاصل، والله أعلم.(1/629)
صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم
وإذ قد كمل الكلام على ما يتعلق بالنبوة من حيث هي، فلنتكلم على معظم الغرض المقصود منها وهو الكلام في نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال عليه السلام : [ فإن قيل: ] أيها الطالب الرشاد[ قد أكملت معرفة ربك، ] حق معرفته بما مر ذكره من مسائل التوحيد ومسائل العدل[ فمن نبيك؟ ] وقد سبق شرح معنى الرب في أول التوحيد ومعنى النبي في أول الباب حيث قلنا في حد النبوة: هي وحي الله إلى أزكى البشر الخ، فعلم أن النبي إنسان أوحى الله إليه بشرع، وخالف في معنى ذلك قوم من أهل الإلحاد والزيغ فقالت الفلاسفة: هو المختص بنفس هي أشرف النفوس لها قوة تَقْبل من العقول أكثر مما تقتضيه على غيرها فتطالع الغيوب في اليقظة كما تراه سائر النفوس في النوم، وهو بناءٌ منهم على نفي الصانع المختار وتوصل إلى توجيه ما جاء به الأنبياء عليهم السلام من المعجزات إلى أن ذلك من قبيل شرف النفس، يعنون نفس ذلك الإنسان وقبولها من العقول والأفلاك والنفوس ما لم يقبله غيرها على حسب هوسهم الذي التجؤوا إليه لنفيهم الصانع.
وقالت الباطنية: إن النبوة فيض من النفس الكلية التي هي عبارة عن جملة العالم مع السابق والتالي والعقول والأفلاك إلى النفس الجزئية التي هي عبارة عن نفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو غيره من سائر الأنبياء، فيظهر لهذه النفس ما لم يظهر لغيرها من العلوم بالمغيبات، وهو راجع إلى قول الأولين إلا أنه يخالفه في العبارة.
وقالت المطرفية: إن النبوة مكتسبة بالطاعة، فمن أراد أن يكون نبياً اجتهد في الطاعة.(1/630)