فيقال للجويني: ليس الكلام في أن المعجز يدل على التصديق حتى تحتاج إلى دعوى أن العلم بذلك ضروري، وإنما الكلام في أن من صَدَقه الله تعالى فهو صادق، وأن إظهار المعجز على يدي الكاذب قادحاً في نبوة الصادق، دليله: أنه قد يوجد التصديق ولا يوجد الصدق كما إذا قال قائل السماء تحتي والأرض فوقي فيقول آخر صدقت، فقد وجد التصديق دون الصدق، فهلم الدلالة على أن الله تعالى لا يصدق إلا الصادق بعد أن جوزت إظهار المعجز على الكاذب، وأما قولك إن ذلك لا يقدح. فهو إنكار عين الإلزام مع عدم التخلص منه، وذلك لا يصح مع البقاء على اعتقاد موجب الإلزام وهو أنه تعالى لا يقبح منه الفعل لأنه غير منهي ولا يسأل عن شيء، إذ قد دخلت صورة محل النزاع تحت هذه القاعدة الكلية التي أصّلتموها فيقال عليها فلا يقبح منه عز وجل أن يصدق الكاذب بوجود المعجز على يده، فيقدح هذا في نبوة الصادق بأن يقال هو كاذب لكن أظهر الله المعجز على يده وإن كان كاذباً، إذ لا يقبح ذلك من الله تعالى لأنه غير منهي عنه، ويقدح أيضاً في نبوة الصادق على أصلهم من جهة جواز عدم إظهار المعجز على يده لأنه تعالى غير منهي عن الإخلال بذلك ولا يسأل عن شيء.
وبعد فما مرادك أن العلم بذلك ضروري. هل بضرورة العقل فلا قائل به ولا عُدَّ هذا من علومه الضرورية، أم بضرورة من الدين فهو متوقف صحته على إثبات النبوة، فكيف يحتج لإثبات أصل بفرع لا ثبوت له إلا بعد إثبات أصله؟.(1/621)
ويقال للغزالي: كما قيل للجويني في قوله: إن إظهار المعجز على الكاذبين لا يقدح. ويزاد عليه بأن يقال: ما معنى كلامك الطبع باعث والعقل هادٍ والرسول معرف والمعجزة ممكنة، ومهما كان كذلك توجه النظر إلى آخر ما ذكرته؟ فإن هذا كله كلام رث ومغالطة لا طائل تحتها ولا صحة لها على أصول المجبرة، أما كون الطبع باعث، فإن عنيت على وجوب النظر فالمجبرة بأسرهم أنكروا دلالة العقل على وجوبه وقصروها على السمع فكيف يدعي ما هو فوق دلالة العقل؟ وقوله: والعقل هادٍ، إنما ذلك على قول العدلية دون الجبرية فلا يدرك العقل عندهم في أفعال الله تعالى جهة حسن ولا قبح، وقوله: والرسول معرف، يقال: معرف بماذا هل بالنبوة، أو بوجوب النظر، أو بما يتفرع عليها من الشرائع والأحكام؟ والأوّلان دور محض إذ لا يثبت له صحة التعريف أو إيجاب النظر إلا بعد حجته، قوله: ولا حجته إلا بعد إثبات نبوته، والثالث خارج عما نحن بصدده، وقوله: والمعجزة ممكنة. يقال ما المراد بممكنة هل غير مستحيلة أو بمعنى أنها تصح النبوة من دونها أو ممكن إظهارها على الكاذب والصادق أو تخلفها عنهما معاً أو على الصادق دون الكاذب أو العكس؟ وكلها باطلة إلا إظهارها على الصادق فواجب دون ممكن.
فظهر لك أيها الناظر بعين البصيرة أن هذا كله كلام رث ومغالطة لا طائل تحته، وأعجب منه قوله: ومهما كان كذلك توجه النظر في المعجزة. وإن لم يوجب الرسول النظر فيها، لأن إذا لم يوجب الرسول النظر فيها أسندت دلالة السمع على وجوبه بعد إنكار المجبرة وجوبه عقلاً فلا معنى لقوله: توجه النظر، فتأمل.(1/622)
ويقال للرازي: قد سلمت أن صدق الرسول ينبني على مقدمتين الأولى: أن المعجز يجري مجرى التصديق بالقول، والثانية: أن من صدقه الله تعالى فهو صادق، ثم اعتمدت في تصحيح الأولى وإقامة برهانها على عدم التنازع فيها بين المسلمين وأن المعتزلة يوافقون في ذلك ولم تذكر للثانية برهاناً، وإنما قطعتم بها لمجرد معارضة المعتزلة بمذهبهم في الأولى فإنها تجري مجرى قول الله: صدقت، وهذا القول يحتمل الصدق والكذب فإذا قطعوا بالصدق مع الاحتمال في المقدمة الأولى قطعنا به في الثانية، فما جوابك على من خالفكم وخالف المعتزلة وجميع المسلمين في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهل تنفعك معارضة المعتزلة في ذلك المقام الخطر؟!
وبعد فالخبر إنما يحتمل الصدق والكذب بالنظر إلى ذاته من حيث أنه خبر لا بالنظر إلى قائله، فإنه إذا كان عدلاً حكيماً قطع بصحته فلا تَرِدُ المعارضة على المعتزلة لقولهم إنه تعالى عدل حكيم لا يفعل القبيح، وأنتم قد خالفتم في هذا لأصل، فالإلزام منحصر فيكم لا يتعداكم.
ويقال لابن الحاجب: إذا كنت إنما قطعت بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمجرى العادة أن الله لا يظهر المعجز إلا على يد الصادق، فما طريقك إلى إثبات نبوة أول نبي وثاني نبي فإنها لم تجري عادة هناك تنبني عليها نبوة من بعدهما إلى عند نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟!
وبعد فما جوابك على البراهمي إذا قال لك: عندي لم يصدق نبي قط فضلاً عن أن تجري بذلك عادة؟(1/623)
وبعد فإن العادة لا تفيد إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، وبعد فما جوابك على من عكس عليك المسألة وقال لك: قد أجرى الله العادة أنه يظهر المعجز على يدي الكاذب ويخلفه عن الصادق ولا يقبح ذلك منه، لأنك لم تنف وقوع ذلك منه وتجويزه على الله تعالى لأجل عدله وحكمته بل لأجل العادة ولا مانع عقلاً من تعكيسها، فإن ورد الشرع بنفي التعكيس فلا يعلم صحته إلا بعد العلم بهذه المسألة وإثباتها من جهة العقل، وليس إلا أن تنبني المسألة على العدل والحكمة اللذين أنتم عنهما بمعزل.
وإذ قد نجز الكلام على أن النبوة لازمة العدل ومتفرعة على القول به، فلنذكر مسائل ينبغي معرفتها قبل الكلام على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
مسألة: قال الهادي والناصر والمتوكل على الله وكثير من قدماء أئمتنا عليهم السلام: يجب على المكلف عقلاً أن يعلم أنه لا بد لله تعالى من رسول لينبي عنه تعالى بيان أداء الشكر الذي وجب في العقل على الإجمال فيأتي الرسول ببيانه على التفصيل.
وقال بعض البغدادية: بل لأنه يجب على الله الأصلح حتى أوجبوها لتعريف بما هو من مصالح الدنيا كالأغذية والأدوية والمعادن واللغات وتعريف المضار كالسمومات ونحوها.
وقال بعض أئمتنا عليهم السلام كالمهدي عليه السلام على رواية الأساس وبعض الزيدية كالقرشي والنجري وكثير من المعتزلة: بعثة الأنبياء عليهم السلام لطف للمكلفين في الواجبات العقلية، فلا يجب على المكلف العلم بأنه لا بد منها قبل مجيء الرسل، إذ لا يدرك العقل كونها لطفاً إلا بعد مجيئهم بها لجواز أن يكون فيها لطف وجواز خلوها عنه، فأما بعد مجيئهم بها فيقطع العقل بأنها لطف لكونها فعل حكيم.(1/624)
وهذه المسألة قد تضمنت طرفين: وجوب العلم بها على المكلف ووجوب فعلها على الله تعالى، أما الأول فالكلام والخلاف كما ذكر، وأما الثاني فاتفق أهل العدل على أن الله تعالى يفعلها قطعاً، واختلفوا في إطلاق الوجوب كما مر في خاتمة باب العدل مع اتفاقهم الجميع أن لو أخل بها عز وجل لم يكن عدلاً حكيماً.
مسألة: واتفق المسلمون على حسن بعثة الرسل، العدلية: لما مر، والمجبرة: لا يُعلم لذلك وجه صحيح، ولا بد أن يقولوا ليعرفوا بها الشرائع والأحكام حيث لا مجال للعقل فيها، وهو منتقض عليهم بأنه لا يجب عندهم شكر المنعم عقلاً وتعرف الشرائع، إنما كان لأجل أداء الشكر وهو لا يجب عندهم إلا سمعاً والسمع لا يثبت إلا بالنبوة، فيكون دوراً محضاً أو إيجاباً للعلم بالنبوة فلا وجه، والكل باطل.
وبعد فإذا كان فعل العبد مخلوقاً طاعة كان أو معصية، فوجوده وعدمه متوقف على الخلق لا على البعثة والأمر والنهي والتعريف ويحسن بعثة الرسل، قال أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وقالت البراهمة: لا تحسن بعثة الرسل، وهم قوم من كفار الهند قالوا بإثبات الصانع عز وجل وأنه فاعل مختار، لكن عندهم نفوا النبوات رأساً وقالوا: لا تحسن، لأن الرسل إن جاؤوا بما قد أدرك العقل حسنه ففي العقل عنهم غنية، وإن جاؤوا بما أدرك قبحه فلا قبول لقولهم.(1/625)