الجهة الثانية: أن الرسل صلوات الله عليهم جاؤوا مخبرين عن الله تعالى بما أخبر به من أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية، وما خلق الله في السماوات والأرض، وسائر أحوال العالم التي لا تعلم إلا سمعاً كعدد السماوات والعرش والكرسي وفناء العالم والإعادة والجزاء بالثواب والعقاب وأهوال المحشر وصفة الجنة وثبوت الشرائع ونسخها وأن شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تنسخ، وكل ذلك متوقف على صدق المخبر والمبلغ ولا طريق لأهل الجبر إلى إثبات صدق أيهما، أما المخبر وهو الله تعالى فلأنهم عللوا قبح الفعل بالنهي عنه والله تعالى ليس بمنهي عن شيء، فلا يقبح الكذب منه تعالى ولا يسأل عنه إذ لا يسأل عن شيء، وحينئذ فما المانع وما المؤمِّن لنا أن يكون تعالى أخبر عن كل شيء بخلاف ما هو عليه في الواقع فلا سبيل إلى القطع بصحة ما أخبر به عز وجل في شيء، إذ لا يتأتى لنا القطع بصحة ما أخبر به إلا إذا قلنا إن الكذب يقبح منه عز وجل، وإن الكذب والظلم والعبث والسفه تقبح لذواتها لا لمجرد النهي عنها، وأما المبلغ فالرسول يدل على المرسَل، فإذا قلنا: إن المرسل لا يصح منه الكذب ولا غيره من القبائح العقلية جوزنا أن يرسل من يعلم من حاله أنه سيخبر في كل ما أمر بتبليغه على خلاف ما أمره الله تعالى، وغاية ما في ذلك أن إرسال من هذا حاله سفه وعبث في الشاهد ولا يقبح ذلك من الباري، إذ ليس بمنهي ولا يسأل عن شيء.(1/616)


الجهة الثالثة: أن النبي إنما يعلم صحة نبوته بإظهار المعجز على يديه، وإظهار المعجز على يد من يدعي النبوة صادق لازم العدل واجب لازم فعله عند من أطلق الوجوب يفعله قطعاً عند من منعه لقبح الإخلال به، وإظهاره على يد من يدعي النبوة كاذباً قبيح لأن ظهور المعجز يجري مجرى تصديق المدعي وتصديق الصادق صدق واجب ومن ثمة حَرُم كتمان الشهادة، وتصديق الكاذب كذب لا يجوز ومن ثمة حرمت شهادة الزور، والباري تعالى عند المجبرة لا يصح منه شيء إذ ليس بمنهي عن شيء، وحينئذ فإذا ادعى إنسان قد أوحى الله إليه أنه رسول إلى الخلق أو بعض منهم وقال له: ?قُمْ فَأَنذِرْ? فأتى إلى من أُرسل إليهم وقال: إني رسول الله إليكم، فقام إنسان آخر وعارضه في هذه الدعوى كاذب مفتري ولم يوحي الله إليه بشيء ولا أمره ولا أرسله فلا سبيل إلى الفرق بينهما، إلا بأن من ظهر المعجز على يديه فهو النبي الصادق ومن لم يظهر عليه فهو المفتري المشاقق، فلا يمتنع على قول المجبرة أن يظهر الله سبحانه وتعالى على يدي المفتري المشاقق ويخل به على يدي النبي الصادق، وحينئذ لا يعلم صدق محمد النبي الأمين من كذب مسيلمة الكذاب اللعين، وإن ظهرت المعجزات على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتخلفت عن مسيلمة فإنما عكس الله اللازم بعد أن أمر مسيلمة وأوحى إليه دون محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وغاية ما في التعكيس أنه يقبح في الشاهد ولا يقبح من الباري تعالى إذ ليس بمنهي ولا يسأل عن شيء.(1/617)


يزيده وضوحاً أن عند المجبرة أن جميع التصديقات والتكذبيات الصادرة من الأمم إلى الأنبياء عليهم السلام فعل الله تعالى وخلقه وإرادته، وإذا كان كذلك فليس بأن يحكم بصدق الأنبياء عليهم السلام نظراً إلى من صدقهم أولى من أن يحكم بكذبهم نظراً إلى من كذبهم لأن الكل من الله وخلقه وإرادته، وليس بأن يحكم بكذب المتنبئين نظراً إلى من كذبهم أولى من أن يحكم بصدقهم نظراً إلى من صَدَّقهم بل المكذبين للرسل صلوات الله عليهم أكثر من المصدقين لهم، فكان يلزم الترجيح بالكثرة فيلزم تكذيب الرسل لكثرة المكذبين لهم، فتأمل.
فإن قيل: فظهور المعجز على أيدي الأنبياء يرجح تصديقهم ويفرق بين النبي والمتنبي.
قلنا: إنما يكون ظهور المعجز مرجحاً وفارقاً على القول بالعدل وقد بينا أنه لا يتأتى ذلك مع القول بالجبر.
وبعد فالمعجز إنما يدل على صحة نبوة النبي لأن ظهوره على يديه ينزل منزلة قول القائل صدقت، وهذا ليس بأكثر من أن يزيد في المصدقين واحداً، يقول صدقت، وعدم ظهوره ليس بأكثر من أن ينقص من عدد المصدقين واحداً فكيف يصح الترجيح والفرق بما هذا حاله؟
ولما أورد أصحابنا رحمهم الله تعالى عليهم هذا الإيراد الذين لا يعلمون معه صحة نبوة ولا شريعة ولا مبعث ولا جنة ولا نار إلا مجرد أنا وجدنا آباءنا، أخذ النُظَّار منهم في دفع هذا الإيراد والاحتيال عن الخروج منه بما لا محصول له حسبما ذكر ذلك القرشي عنهم في المنهاج:
فقال الجويني: العلم بكون المعجز دلالة على التصديق علم ضروري وتجويز إظهاره على الكاذبين لا يقدح في ذلك.
وقال الغزالي: الطبع باعث والعقل هاد والرسول معرف والمعجزة ممكنة، ومهما كان كذلك توجه على المكلف النظر في دلالة المعجز وإن لم يوجب الرسول النظر فيها فإذا نظر عرف، ولا يقدح في ذلك تجويز إظهار المعجز على الكاذب.
وقال الرازي: الكلام في صدق الرسول ينبني على مقدمتين:
إحداهما: أن المعجز يجري مجرى التصديق بالقول.(1/618)


والثانية: أن من صدقه فهو صادق، قال: ونحن نقطع بالمقدمة الأولى وإن جوزنا أن يفعل الله القبيح والمعتزلون يوافقون في ذلك يعني في صدق الأولى، قال: وأما المقدمة الثانية فهي وإن توقفت على استحالة كونه فاعلاً للقبيح لكن المعتزلة معارضون بمذهبهم في الأولى، فإنها تجري مجرى قول الله: صدقت، وهذا القول يحتمل الصدق والكذب، فإذا قطعوا بالصدق مع الاحتمال في المقدمة الأولى قطعنا به في المقدمة الثانية.
وقال ابن الحاجب: إنا لا نعلم صدق الرسول عند ظهور المعجز لأجل حكمة الله وعدله، ولكنه قد أجرى العادة بأنه لا يظهر المعجز إلا على صادق.
فهذا كلام حذاقهم ونُظَّارهم ومن يشار إليه منهم، وإذا تأملته وجدته أوهن من نسج العنكبوت وهو بنص الكتاب لأوهن البيوت، بل هو سراب بقيعة والتجاء إلى فئة غير منيعة،وقد أجاب القرشي رحمه الله تعالى على كل قول منها عقيبه وتركنا نقل أجوبته قصداً للاختصار ولا بد من الجواب عليها جملة، ثم على كل منها بما يخصه بما هو مزيد على جواب القرشي، لأن الكلام خليق باستيفاء البحث، ولأن المقام خطر، وليعلم المطلع ما في الجبر من المفاسد التي لا حصر لها، وأن أهله وإن كان فيهم من هو في سائر الفنون وسائر المباحث الكلامية سواء ما يتعلق بالخبر له يد طولى، فإنهم عند أن يسلكوا مسلك الجبر تعمى أبصارهم وتخسأ أنظارهم ?وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ?{المجادلة:18}.
والجواب عليهم الجامع لأقوالهم الجميع:
أن مبناها جميعاً على القطع في محل التجويز، ولا شك أن ما هذا حاله فهو باطل، أما كون مبناها على القطع في محل التجويز فلأن كلام الجويني والغزالي مآله إلى إنكار أن ظهور المعجز على الكاذب قادح وهذا عين محل النزاع وأقل الأحوال احتمال القدح وعدمه فكيف قطعوا بأحد المحتملين في المقدمة الثانية؟(1/619)


وأما ابن الحاجب فقد صرح بأنه لم يعلم صدق الرسول لأجل حكمة الله وعدله، بل لأجل أن قد جرت العادة بأنه لا يظهر المعجز إلا على صادق وترك الاعتماد على الحكمة والعدل فيما يتوقف العلم به عليهما والانصراف إلى العادة مما لا يخفى بطلانه لأنه عدول عن القطعي إلى الظني، لأن العادة لا تفيد أكثر من الظن ويجوز تخلفها ولله خرق العادات، اللهم إلا أن ينكر أن الله عدل حكيم أو دلالة العدل والحكمة على قبح إظهار المعجز على الكاذب والقدح في الصادق استقام له الظن بالنبوة بعد الكفر بعدل الله وحكمته.
فتقرر من كلامهم أن جميع أقوالهم مبنية على القطع في محل التجويز، وأما أن ما هذا حاله فهو باطل فذلك معلوم، ولهذا اتفق العلماء أن القطع في مواضع التجويز لا يجوز، وأما ما يجاب به على كل واحد منهم بخصوصه.(1/620)

124 / 311
ع
En
A+
A-