خاتمة لباب العدل
اعلم أن ما يفعله الله سبحانه وتعالى لعباده من مصالح دينهم وعدم فعله مفاسده، ومصالح دنياهم ومفاسدها على ثلاثة أقوال بين العدلية بالنظر إلى إطلاق لفظ الوجوب وعدمه عليه تعالى مع اتفاق الجميع على أنه تعالى لو لم يفعل ما هو مقتضى العدل والحكمة لم يكن عدلاً حكيماً، فأجمعوا على أنه يفعله قطعاً ولا يجوز اعتقاد أنه تعالى يخل بشيء من ذلك ولا أنه يجوز عليه الإخلال ببعض مما هنالك:
الأول: قول صاحب الأساس قدس الله روحه والشارح وحكاه عن العنسي وغيره عن الزيدية: أنه لا يقال واجب في حق الله تعالى شيء، لإيهامه التكليف بل يقال: يفعله قطعاً أو لا محالة. قال شيخنا رحمه الله تعالى في حاشيته: وهي متأخرة وهو أولى في حق الله تعالى.
الثاني: يجب على الله تعالى ستة أمور كليات تنطبق على جزئيات متعددات وهي: اللطف للملتطفين، والعوض للمُؤْلَمين، والانتصاف للمظلومين، والتمكين والبيان للمكلفين، وقبول توبة التائبين، وثواب المطيعين، قالوا والثلاثة الأُول ليس الموجب لها ابتداء التكليف، والثلاثة الأخيرة الموجب لها ابتداء التكليف.
قلت: وفي دعوى الفرق نظر، وهذا حكاه في شرح الأساس عن جمهور المعتزلة وزاد بعضهم نصرة المظلومين وبعثة المستحقين، وفي الحقيقة قد دخل هذان فيما ذكر، وحكى شيخنا رحمه الله تعالى في السمط عن أكثر الأئمة عليهم السلام الجواز قال: لوجوده في الكتاب والسنة وأقوال الأئمة عليهم السلام ثم قال: قيل: بل نتأدب بترك اللفظ ويقال: يفعله قطعاً.(1/611)
وفي شرح الأساس عن الإمام يحيى عليه السلام في الشامل ما لفظه: اتفقت العدلية من الزيدية والمعتزلة على القول بوجوب اللطف والعوض والثواب على الله تعالى وغير ذلك من الأمور الواجبة عليه تعالى من أجل التكليف، فأما ما لا يتعلق بالتكليف كالأفعال المبتدأة فلا يوصف بكونه واجباً وإنما يوصف بكونه نعمة وإحساناً وتفضلاً كأصل التكليف نفسه، قال الشارح: وفي إطلاق القول عن العدلية نظر، ثم حكى كلام العنسي رحمه الله تعالى المذكور عن الزيدية: أنه لا يقال واجب في حق الله تعالى بشيء.
الثالث: قول أهل الأصلح وهم البغدادية قالوا: يجب على الله الأصلح من فعل وترك، سواء كان ذلك راجع إلى الدين أو إلى الدنيا فكلما علمه تعالى أصلح وجب، وكلما لا فلا يجب.
قال القرشي رحمه الله تعالى في رد هذا القول ما لفظه: عند جمهور أهل الحق أن مجرد كون الشيء نفعاً لا يكفي في وجوبه بل لا بد من أحد ثلاثة وجوه:
إما أن يختص بوجه لأجله يجب كرد الوديعة وشكر المنعم ودفع الضرر والانتصاف والإثابة ونحو ذلك.
وإما أن تكون لطفاً كمعرفة الله سبحانه وبعثة الأنبياء عليهم السلام وكالشرعيات.
وإما أن لا يتم الواجب أو ترك القبيح إلا به كالقيام وفتح الباب والنظر في العقليات وكالظهور في الشرعيات وكالإعادة من فعل الباري تعالى.(1/612)
وما خرج عن هذه الثلاثة الأقسام لا يجب، قال: وخالف بعض البغداديين فقالوا: بوجوب ما كان أصلح. أي أنفع حتى حكموا بوجوب ابتداء الخلق ووجوب التكليف ونحو ذلك مما يعده أصحابنا تفضلاً، وفيهم من طرد هذه القضية في الشاهد أيضاً فحكم بوجوب الأصلح من أفعال العباد، ثم حكى أدلة متعددة على بطلان القول بوجوب الأصلح بما لا حاجة إلى ذكرها، إذ يكفي في بطلان هذا القول عدم الدلالة عليه، يزيده وضوحاً أن قولهم: يجب على الله تعالى الأصلح. إن قالوا: الأصلح بالنسبة إلى الله تعالى. فهو محال، لأن المنافع عليه والمضار مستحيلة، وإن أرادوا الأصلح بالنسبة إلى الخلق فالأصلح في حقهم أن يخلقهم جميعاً ابتداءً في الجنة من دون تكليف بتَفَرُّع تركٍ عليه عقاب من لم يمتثل، وإن أرادوا الأصلح بالنسبة إلى الدين أو بالنسبة إلى الدنيا، فليس ثم شيء يمكن القطع فيه أنه أصلح سوى الستة المذكورة، وقد قلنا: لا يقال فيها واجب، بل يقال: يفعله قطعاً، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
I(1/613)
الباب الثالث الكلام في النبوة وما يتصل بها من مسائل القرآن والإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك
النبوة
هي مأخوذة من الإنباء والإخبار:
نُبِئْتُ أن رسولَ اللهِ أوعدَني .... والعفوُ عندَ رسول الله مأمول
وقيل: من النبو وهو الارتفاع قال:
لأَصْبَحَ رِيْماً دُقَاقُ الحََصىَ .... مَكَاَنَ النَّبِيِّ مِنَ الكَاثِبِ
فعلى الأول يستعمل بالهمز فهو نبيء بمعنى: منبيء اسم فاعل، لأنه منبيء عن الله تعالى بما يجب له تعالى من العدل والتوحيد مضافاً إلى ما دلت عليه العقول وعن أحوال المعاد والشرائع وأخبار الأمم الماضية فهو فعيل: بمعنى فاعل أو بمعنى مُنبأ اسم مفعول، لأن الله تعالى أنبأه بما ذكر، وعلى الثاني يستعمل بغير همز لأنه فعيل بمعنى: مُفعَل كرفيع بمعنى مُرفَعْ أو بمعنى مرفوع، وقد منع أبو علي الجبائي من استعماله بالهمز، ولا وجه له مع ورود القرآن بهما معاً.
وهي في الشرع والاصطلاح بمعنى واحد وهي: وحي الله تعالى إلى أزكى البشر عقلاً وطهارة من ارتكاب القبائح وأعلاهم منصباً بشريعة ذكره في الأساس، فقوله: وحي الله تعالى، جنس الحد يدخل فيه الإيحاء إلى الملائكة عليهم السلام والجن على أن منهم أنبياء إلى بعضهم البعض، وإلى النحل ?وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ? الآية {النحل:68}، وقوله: إلى أزكى البشر، خرج به ما عدا الإنسان،
وقوله: عقلاً. يخرج الأنثى ومن لا تصح نبوته كالصبي والمجنون،وقوله: وطهارة من ارتكاب القبائح وأعلاهم منصباً، يخرج الكافر والفاسق ومن هو من أراذل الناس وسفهائهم فلا تصح نبوة أحدهم كما قد أجرى الله تعالى العادة بذلك، ولأنه يقبح إرسال من هو كذلك مع وجود الزكي التقي رفيع المنصب.(1/614)
واعلم أن النبوة فضيلة وأمانة وخصيصة يختص بها الله تعالى ويختار لها من يشاء من عباده ممن علم منه الوفاء والتضلع لتحمل أعبائها والتبليغ بها وبجميع الشرائع الآتي بها ذلك النبي كما قال تعالى: ?اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ?{الأنعام:124}، وقال تعالى: ?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ?{الحج:75}، فلا يصح التحكم فيها إلى الرسول ولا إلى المرسل إليهم.
ثم اعلم أن النبوة لازمة للعدل ومتفرع ثبوتها على ثبوته، وحينئذ لا يصح للمجبرة القول بها كما سنبين ذلك، ولكنهم لعمى بصائرهم وفساد ضمائرهم لم يعولوا على ما يلزمهم من القول بالجبر وإن ناقض العقول أو أدى إلى بطلان نبوة الرسول كما هي عادتهم في إنكار الضروريات وإنكار اللوازم العقليات والسمعيات، وبيان أن النبوة لازمة ومتفرعة على القول بالعدل من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: أن موضوع النبوة وثمرتها الإخبار للمكلفين بما يجب عليهم من أداء الشكر العقلي، وبيان كيفية أدائه والإخبار لهم بما في العلم به لطف لهم من هلاك الأمم الخالية، وبعث من سلف ومن غبر إلى منقطع التكليف، وما لهم في الطاعات من الثواب وعليهم في المعاصي من العقاب، وذلك كله متفرع على كون العبد فاعلاً لفعله وموجده على إرادته واختياره، إذ لو كان مخلوقاً فيه لأوجده الله تعالى من دون رسول يطلب منه بعض الأفعال وينهاه عن بعضها ولا وعد ولا وعيد ولا ترغيب ولا تهديد، وهذا واضح لا شك فيه.(1/615)