وأما القياس فغير صحيح لأن الدعا إلى الطعام المصنوع للغير بمنزلة التكليف نفسه لا بمنزلة اللطف فيه، وإنما الذي يكون بمنزلة اللطف هو ما يفعل في الطعام من المرغبات والباعثات على الأكل والازدياد منه من حسن الصنعة وإفاقتها إحضار الأنواع الطيبة وتلقي الضيف بالبشر والرحب وحسن الأخلاق ولطافة الكلام معه، وهذه الأمور كلها مزيد إحسان فغايتها الحسن ووقوعها قطعاً من الكريم الجواد لمن يستحق ذلك ولا تقتضي الوجوب بعد إعداد الطعام الذي جرت به العادة من مثل الداعي للمدعو أو في غالب عرف البلد، فإنه إذا فعل ذلك المعتاد وترك تلك المرغبات والباعثات لم يعد على الغرض المقصود وهو الإطعام بالنقض ما لم يفعل ما يصرف عنه من كدافة الصنعة وسوئها وخلط ما فيه ضرر أو سم بالطعام، والتقطيب في وجه الضيف وشكاسة الأخلاق وفحش الكلام معه أو إخلال بشرط لازم كالتحمية والتبريد والملح ونحوه فيما يحتاج إليه من ذلك بحيث لا يمكن الأكل إلا به نظراً إلى المدعو، فهذه هي التي تعود على الغرض المقصود بالنقض وليست من باب الألطاف ولا وزانها وإنما هي من باب عدم فعل المانع وعدم الإخلال بشرط من شرائط الفعل المكلف به، وبهذا يظهر عدم وجوب اللطف وإن حسن فما هو إلا كفعل مرغب من الجواد الكريم ويعلم ترك وجوب ما فيه مفسدة وقبحها وعدم وقوعها من العدل الحكيم ولا يرد عليه ما قاله القرشي: لو لم يجب اللطف لما قبحت المفسدة. لعدم التلازم كما يظهر من الكلام المذكور في إحضار الطعام إذ يمكن فيه الإخلال بما هو بمنزلة اللطف مع عدم ارتكاب ما هو بمنزلة المفسدة.
دليل: أصل التكليف في نفسه غير واجب فكذلك ما هو فرع عليه، إذ لا يزيد الفرع على أصله.
لا يقال: وكذلك الثواب وقضاء الدين ونفقة الزوجة متفرع على التكليف والاستدانة والنكاح، فكما أنه يقال بوجوب هذه الفروع وإن كان أصولها غير واجب فكذلك اللطف هو واجب وإن كان أصله غير واجب.(1/601)


لأنا نقول: هذه الأمور المذكورة مقتضاة عقلية ولوازم شرعية وجبت من وقوع أسبابها المذكورة وليس كذلك اللطف، لأنه ليس إلا بمنزلة فعل المرغب فهو خارج عن التكليف وعن الثواب، فليس فعله بآكد من فعل التكليف فضلاً عن أن يبلغ حد الوجوب.
دليل: لو وجب اللطف لوجب لكل مكلف في فعل كل طاعة وترك كل معصية، إذ لا وجه للتخصيص لاستواء جميع المكلفين في حسن الغرض على النفع بالتكليف ونقض الغرض منه بالإخلال باللطف فيه، فكان لا يوجد عاص ولا معصية ولا تفقد طاعة والمعلوم خلافه.
لا يقال: هذا لا يرد إلا على قول من يقول إن اللطف عنده بفعل الملطوف فيه لا محالة دون من يقول أو يكون أقرب إلى فعله، إذ قد فعل الله بكل عاص ما يكون أقرب إلى فعل الطاعة فأُتي في تركها من جهة نفسه.
لأنا نقول: بل هو وارد على الجميع لأن قولهم: أو يكون أقرب إلى الفعل. لا يخلو إما أن يكون حصل معه الفعل الملطوف فيه عاد إلى القسم الأول أو لا صار وجوده كعدمه فليس بلطف، ولأن فعل ما يكون أقرب معه إلى فعل الطاعة مع إمكان ما تفعل معه الطاعة لا محالة لا تسقط به العهدة، والخروج عن الواجب حيث لم يؤثر في اللطفية بل يجب العدول عنه إلى ما يؤثر في حصولها لا محالة، فكان يلزم ما ذكرنا أن لو وجب اللطف لما وجد عاص ولا معصية ولا فقدت طاعة.
وقد أجابوا على هذا الدليل بأن قالوا: ليس كل مكلف به من الأفعال يجب أن يكون له لطف بل في التكاليف ما لا لطف فيه ولا مقدرة لله تعالى على فعل ما يلتطف به فيه، وحينئذ فعدم حصول الطاعة ليس للإخلال بما هو لطف فيها بل لعدم دخوله تحت القدرة والإمكان.(1/602)


والجواب: أن هذا كما يقال العذر أقبح من المعتذَر عنه بَيْنَاهُم يريدون تنزيه الله سبحانه عما يقدح في عدله وحكمته إذ ارتكبوا ما يقدح في قادريته ولعل لمتشبث بهذه المقالة أن يستظهر لها بقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَoوَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ?{يونس:96،97}، وبقوله تعالى: ?وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا?{الأنعام 111}.
قلنا: ليس في الآيتين زيادة على الإخبار بأنهم لا يؤمنون عند وقوع تلك الآيات لو وقعت، ولا دلالة فيهما على أنه تعالى ليس له قدرة لا حيلة على فعل ما فيه لطفهم بل هو على كل شيء قدير، غير أنه لم يفعله لهم لعدم وجوبه بعد فعل ما يزيح علتهم وهو الأمر بالمكلف به والتمكين من فعله ودفع المفاسد الصارفة عنه وترادف الحجج بالتحذير والتبشير على ألسنة الرسل ومن يبلغ عنهم كما قال تعالى: ?رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?{النساء:165}، ولم يقل لئلا يكون للناس على الله حجة بعد إبلاغ الجهد فيهم.
لا يقال: إن الإلزام مشترك لأنكم قلتم: إن الجواد الكريم يفعله قطعاً، فيلزم أن لا توجد معصية ولا تفقد طاعة.
لأنا قلنا: يفعله قطعاً. لمن يستحق دون من يصر ويستمد في طغيانه ويستمر على عصيانه فيستحق الخذلان وهو عدم اللطف لا غير ويصير كعدم تنوير القلب والهدى الزائد على القدر الواجب بمقتضى التكليف بخلاف قول القائلين بوجوب اللطف، فإنهم أوجبوه في حق كل مكلف سيطيع وجعلوا لطف من سيصر ويموت على كفره أو فسقه غير مقدور لله تعالى، فلا يتعلق به وجوب وإنما يتعلق الوجوب فيمن له لطف، وقد عرفت ما يرد عليه من أن العذر أقبح.(1/603)


واعلم أن المعتزلة ومن وافقهم في وجوب اللطف قد تكلموا على مسائل وأطراف من الخلاف بينهم مبنية على القول بوجوب اللطف فلا حاجة بنا إلى ذكرها خشية التطويل، ولكنا نذكر ما لا بد منه مما لا يتفرع على القول بالوجوب، ومن أراد الازدياد فعليه بمنهاج القرشي والغايات وغيرهما من بسائط الفن، فنقول:
مسألة: يصح في اللطف أن يتقدم على الملطوف فيه بأوقات ما لم يكن في حكم المنسي، ويصح فيه أيضاً أن يكون من فعل الله تعالى، وأن يكون من فعل المكلف نفسه، وأن يكون من فعل مكلف آخر كالمؤذن، وأن يكون من فعل غير مكلف كالصبي والمجنون والبهيمة وما تفعله الحرشات والأفاعي والأسود وسائر السباع المفترسة كما يظهر ذلك من الأمثلة السابقة في أول هذه المباحث خلافاً لقوم في الطرفين فقالوا: لابد أن يقال إن اللطف الملطوف فيه وأن يكون من فعل الله تعالى لا من فعله.
لنا: حصول الالتطاف بما مضى من إهلاك الأمم الماضية والقرون الخالية، ومتى قيل: إن اللطف إنما هو في العلم بذلك وهو مقارن للملطوف فيه أو متقدم بما لا يضر التقدم به مع استمراره إلى عند فعل الملطوف فيه.
قلنا: العلم هو بمثابة الطريق الموصلة إلى الوقوف على ما به الالتطاف من الإهلاك فهو بمنزلة مشاهدة الحاضر مما فيه لطف لا بمنزلة وجوده وحضوره في ذاته.
ولنا أيضاً: حصول الالتطاف بالمواعظ والتذكير وبما يفعله الغير من الطاعات فيقتدى به أو من المعاصي فيقام عليه حد أو تعزير فينزجر مكلف آخر عن مثل تلك المعصية وبما يحصل من الاعتبار والتفكير والتذكير لنعمة العقل عند مشاهدة أفعال الصبيان والمجانين وسائر الحيوانات وكل ذلك فعل الغير.
ومتى قيل: بل اللطف في العلم بذلك وهو فعل الله تعالى.
فجوابه: ما تقدم على أنه لا يصح أن يكون العلم من فعل الله تعالى إلا الضروريات دون الاستدلاليات فهي متولدة من النظر الصحيح الذي هو فعل الناظر.(1/604)


مسألة: اتفقت العدلية على أن التوفيق هو اللطف في فعل الطاعة، والعصمة: هي اللطف في ترك المعصية، والخذلان بمقابلهما فهو عدم اللطف بمن لا يستحقه لعدم طويته على الانقياد على الصحيح أو بمن لا لطف له عند القائلين بوجوبه.
وقالت المجبرة: بل التوفيق خلق الطاعة، والعصمة: المنع من المعصية بخلق القدرة الموجبة للطاعة، وعدم خلق القدرة الموجبة للمعصية عند من أثبت للعبد قدرة منهم أو بخلق نفس الطاعة وعدم خلق المعصية عند من نفى القدرة منهم. ذكر معنى ذلك الإمام المهدي عليه السلام وقال في الرد عليهم: قلنا: بناءً على أصل فاسد، قال الشارح لما تقدم في مسألة خلق الأفعال فلا تكالمهم في هذه المسألة بل في تلك.
مسألة: واختلفت العدلية في جواز منع اللطف فيمن لا يلتطف على جهة العقوبة فقال الحاكم: يجوز، وقال المهدي: فيه نظر، لأن ذلك اللطف إن علم الله أن العبد يلتطف به كان واجباً عليه تعالى ولم يحسن العقاب بسلبه، وإن علم عدم التطافه به فليس بلطف حينئذ وليس في سلبه فوت نفع للمكلف ولا وقوع ضرر عليه فلا يكون عقوبة.(1/605)

121 / 311
ع
En
A+
A-