مسألة: السعر
مسألة: والسعر: هو قدر ما يباع به الشيء فإن زاد على المعتاد فغلى: مأخوذ من غليان القدر إذا ارتفع الماء أو نحوه من محله لمداخلة النار، وإن نقص فرخص: مأخوذ من رخص الناعم وهو لين باطن الكف.
والوجه في ذكره أن سببه من جملة أفعال الله سبحانه وتعالى التي يبتلي عباده بها كالجدب وشحة الأمطار والعاهات في الثمار فيكون سبباً للغلاء، ويكون أضداد هذه الامتحانات سبب للرخص، وقد يكون في ذلك لطف للمكلفين فيكون في ذلك مصالح الخلق الراجعة إلى صلاح دينهم ودنياهم، وقد يكون سبب ذلك الغلاء أو الرخص من فعل العباد كجلب التجارات والعناية في الصناعات والمحافلة على لوازم الزراعات وعدم احتكار المأكولات فيؤدي ذلك إلى الرخص وضده إلى الغلاء خلافاً للمجبرة فقالوا الكل من الله تعالى.
قلنا: نهى عن الاحتكار لئلا يقع الغلاء وفي الحديث: "أنه يأتي محتكر الطعام وقاتل النفس المحرمة في درجة واحدة"، وإنما تكلمنا على سبب السعر دون فاعل السعر لأن السعر لا يصح أن يكون فعل الله تعالى، لأن المرجع به إلى تقدير الثمن و رسم المبيع على ذلك القدر، وذلك فعل العبد بلا شك.(1/596)
الألطاف
القول في الألطاف:
اعلم أن اللطف في اللغة: بمعنى اللطافة وهي نقيض الكثافة ثم استعمل في عرف اللغة فيما قرب من نيل الغرض وحصول المقصود، ومنه قول الشاعر:
لو سار ألفُ مُدَجَّجٍ في حاجةٍ ....ما نالها إلا الذي يَتَلَطَّفُ
وقول الآخر:
ما زلت آخذ حاجتي بتلطف .... حتى تركتُ رقابَ الجُلْحِ في الطَّيفِ
وفي اصطلاح المتكلمين اختلفت عباراتهم فيه ففي الأساس: اللطف تذكير بقول أو فعل حاصل على فعل الطاعة أو ترك المعصية. قال في الشرح: لأجل كونها طاعة أو معصية من دون إلجاء إلى ذلك.
وفي شرح القلائد للنجري: هو ما يدعو المكلف إلى امتثال شيء مما كلف به من فعل أو ترك.
وفي منهاج القرشي: أحسن ما يقال فيه: هو ما يختار عنده المكلف الطاعة لأجله بعد التمكين أو يقرب من اختيارها.
وقد عرف من هذه الحدود أن اللطف أمر زائد على التكليف وعلى نفس الطاعة ونفس المعصية، وقيل في حده: هو أن يفعل المكلف ما كلفه لكونه كلفه من دون إلجاء لا محالة، ويفهم من هذا أن اللطف نفس فعل الطاعة على الوجه المذكور من كونه فعلها لأجل كونه كلف بها لا لأجل سمعة ومباهاة ولا للتوصل بها إلى غرض دنيوي نحو أن يقصد أن يحظى عند الملك ويشتهر عند الناس بالفضل فيعطونه الصدقات والهبات ونحو ذلك، وحيث قد اختلفت عباراتهم في حده فلا بد من الكلام الموضح لنفس اللطف بالمثال فنقول:(1/597)
مثاله: إذا سمع الإنسان رعداً أو رأى برقاً فلأجله تفكر وعلم ثبوت الصانع عز وجل وسبحه فإن ذلك السماع والرؤية لطف لهذا المكلف في فعل الطاعة وهو التفكر والمعرفة والتسبيح، لأن كلها طاعة فعلت لأجل السماع والرؤية، ثم التفكر لطف في المعرفة، والمعرفة لطف في التسبيح لأن كل حظ في الدعاء إلى ما يليه،وكذلك فيمن دخل وقت الصلاة عليه وهو في شغل فلم يخطر بباله فعل الصلاة فسمع المؤذن وأجاب إلى فعل الصلاة لوجوبها عليه فسماعه المؤذن لطف له، وكفعل الصلاة فإنها لطف في اجتناب الفحشاء والمنكر، وكفعل التقوى فإنها لطف في معرفة الحق وتنوير البصيرة، وكذلك إذا نظر العاقل إلى فعل الصبي والمجنون وأكاليمهما الصادرة على خلاف الصواب، أو نظر بهيمة تعدو على غيرها وتفترسه أو تجني عليه فيتفكر في حال نفسه أو غيره من سائر العقلاء فيظهر له عظم نفع العقل وعظم الإنعام به على العاقل حيث كان وجوده مانعاً عن صدور مثل ما شاهده من الصبي والمجنون والبهيمة من المفاسد كالكذب والظلم والسفه وجالباً إلى فعل المصالح الدينية والدنيوية إلى غير ذلك من الأمثلة التي يكون فيها ما يقتضي التحضيض والترغيب والدعاء إلى فعل الطاعة ويسمى لطف توفيق، أو إلى ترك المعصية ويسمى لطف عصمة لكن لا يقال لصاحبه معصوماً لأنه قد صار خاصاً بمن لم يُجَوَّز عليه فعل الكبيرة من المكلفين، أو إلى الورع والتقوى الشامل للطرفين ويسمى لطف مطلق.
إذا عرفت معنى الألطاف فقد قال الإمام المهدي عليه السلام : اعلم أن القول بها أي بوجوبها وثبوتها وفي تفاصيل الكلام على مسائلها وشرائطها فرع على القول بالعدل فلا تناظر المجبرة فيها إذ هي ما يختار المكلف معه الفعل أو الترك انتهى.(1/598)
يعني والمجبرة تنفي الفعل من العبد لأن الفعل عندهم لله تعالى فلا معنى لفعل ما يرغب العبد ويدعوه إلى تحصيل فعل الطاعة وترك المعصية ويقولون: لا حكمة لله تعالى في خلق ما يدعو المكلف إلى الطاعة وترك المعصية إذ لا مصلحة له تعالى في ذلك ولا ثمرة في فعله لينتج منه فعل العبد الطاعة أو ترك المعصية لأن فعل الطاعة والمعصية منه تعالى، فلا معنى للقول بالألطاف، ولا للكلام عليها إجمالاً أو تفصيلاً هذا معنى ما قرره الشارح النجري رحمه الله مع زيادة ما يحتاج إليه.
وللسيد هاشم بن يحيى رحمه الله استدراك لطيف على ذلك فقال ما لفظه: قوله: فلا تناظر المجبرة فيها الخ. إن أراد ما يعم أهل الكسب فمن جعل لصرف القدرة والإرادة من العبد دخلاً في الإيجاد يمكنه أن يثبت اللطف بالمعنى المذكور هنا،وأما من جعل الإيجاد محض الخلق بطريق إجراء العادة عقيب إرادة العبد فلا يعقل عنده اللطف إلا بمعنى خلق قدرة الطاعة كما لا يعقل عنده الكسب أيضاً انتهى.
وهو جيد، لكنه يقال عليه إن أهل الكسب يفسرونه بأنه حدوث الفعل ووجوده بقدرة الله تعالى المقارنة لقدرة العبد وإرادته فيه، ولا تأثير لقدرة العبد وإرادته فيه، فيظهر من هذا أنهم لا يجعلون لصرف القدرة والإرادة دخلاً في إيجاد الفعل اللهم إلا أن يكون فيهم من يقول بذلك، فبذلك يخرج عن الجبر وتبقى المسألة على حالها مع المجبرة، والله أعلم.
مسألة: اتفقت العدلية على حسن اللطف من جهة الله تعالى لأنه كالإعانة على تحصيل الغرض المطلوب، واختلفت الأقوال عنهم في وجوبه عليه تعالى فحكى شيخنا صفي الإسلام رحمه الله تعالى اتفاقهم على القول بوجوبه وقال: روى اتفاقهم الإمام يحيى والمنصور بالله والفقيه حميد الشهيد والأمير الحسين والحاكم والإمام المهدي قال: وقال المؤيد بالله: اللطف ملازم للعدل انتهى.(1/599)
ولعله رحمه الله تعالى لم يعتد بما حكاه المهدي والقرشي عن بشر بن المعتمر من أنه لا يجب اللطف وإن حسن التفضل به لأن الأمر بالفعل مع التمكين منه وعدم المانع والملجي كاف في إزاحة علة التكليف، ولا إلى ما حكياه عن جعفر بن حرب إن استحق من الثواب مع عدم اللطف أكثر مما يستحقه معه لم يجب وإلا وجب، بناءً على أنه قد صح رجوعهما عن ذلك ووافقا الجمهور ولا بما ذكره القرشي من قوله، وقال قوم: لا بد أن يفعله الله وليس بواجب ترجيحا لرواية الأئمة المذكورين عليهم السلام اتفاق العدلية على ذلك، والأظهر أن الخلاف بين العدلية كائن، يدل عليه ما ذكره الإمام عليه السلام في الأساس في قوله: وما يفعله الله تعالى قطعاً لا يقال بأنه واجب عليه تعالى لإيهامه التكليف. إلى قوله: والألطاف كنصب العلامات كيلا يسلك غيرها. إلى قوله: فكما أن فعل ذلك تفضل في العقل فكذلك هذا فالله أعلم بكيفية نقل اتفاق العدلية عن أولئك الأئمة عليهم السلام، ولعله على ثبوت الألطاف أو على حسنها فأخذه الحاكي وحمله على الوجوب سبق لسانٍ أو سبق قلمٍ أو توهم الترادف أو التلازم إذ لا وجه يقتضي وجوب اللطف على الله تعالى إلا تعليلهم وجوبه بأنه إن لم يفعل نقض الفرض بالتكليف وقياسهم ذلك بمن صنع لغيره طعاماً ولم يدعُه إليه، وهذا كما ترى لا يقتضي الوجوب فتأمل.
أما التعليل بأنه إن لم يفعل نقض الفرض بالتكليف فلا يسلم أن الإخلال بفعل ما فيه لطف ينقض الفرض بالتكليف وإنما ينقضه إيجاد مانع منه أو إخلال شرط من شرائط التكليف.(1/600)