فرع: ولا توجبه الحكمة بمعنى أنه إذا أمات الله تعالى شخصاً جوعاً فلا ينافي ذلك الحكمة لأن من الجائز امتحان ذلك الشخص أو غيره بالموت على تلك الصفة وجعل الجوع سبباً من جملة الأسباب للموت وقوله تعالى: ?إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا?{هود:6}، قيل: ?على?: بمعنى مِنْ، والأظهر أنه نزل تضمن الله سبحانه لعباده إرزاقهم بمنزلة الواجب لما في ذلك لهم من داعي الاعتماد على الله تعالى والركون عليه في تسيير الأرزاق وتسخيرها عند السعي لها من الوجوه المستحسنة، قال الإمام المهدي عليه السلام بعد قوله: ولا توجبه الحكمة: وقد يجب على الله سبحانه الرزق لوجه عارض، وهو حيث يعلم أن في توسيع رزق لشخص لطفاً له في الدين ومصلحة، فيجب حينئذ لكونه لطفاً لا لكونه رزقاً وقد يقبح منه ذلك، وذلك حيث يكون مفسدة كما نبه الله على ذلك حيث قال: ?وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ?، وقال تعالى: ?كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىoأَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى?{العلق:6،7}،والإنسان جنس كأنه قال: إن هذا الجنس من الحيوان ليطغى انتهى كلامه والمسك ختامه.
وقال السيد هاشم رحمه الله: لا مانع من القول بالوجوب بعد تحقق الوعد به، والمراد به الرزق مدة الحياة فلا ينافيه جعل الموت في بعض الأشخاص بالجوع مثلاً انتهى. وقول الإمام عليه السلام : وقد يقبح منه ذلك، يعني قد يقبح وقوعه فلا يقع منه سبحانه وتعالى وذلك حيث يكون مفسدة الخ.(1/591)
فإن قيل: فقد علمنا وشاهدنا كثيراً من الخلق يفسدون ويبغون في الأرض بسبب وجود الأموال لديهم وسعتها وبسط الأرزاق لهم وتيسرها كما هو المعلوم من حال أهل السرف والإنفاق في المعاصي، ولو لم تكن لهم تلك الأموال لما تمكنوا من ذلك.
قلنا: أما من قال بوجوب الأصلح على الله تعالى وهم البغدادية فالسؤال وارد عليه، وأما من لم يوجبه وهم أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم من البصرية فلهم أن يجيبوا بأن البغي والفساد ليس لازماً لوجود المال حتى يقطع بأن وجوده سبباً للمفسدة، ومن الجائز أن الله سبحانه إنما أعطى المال ذلك الشخص لينعم به عليه ويتعبده بالإنفاق في القُرَبِ المُقَرِّبَةِ فيسببه للثواب الجزيل، بل ذلك هو الأظهر بل الواجب القول به، ولكن ذلك العبد أتي من جهة نفسه بمخالفة ما ندبه الله إليه من الإنفاق بأن صرفه إلى المعاصي.
لا يقال: فيلزم نزعه من يده عند أن أخذ في الإنفاق في المعاصي.
لأنا نقول: تبقيته في يده وتمكينه من إنفاقه في القرب شرط التعبد، والتكليف بإنفاقه في البر وانتزاعه أو نقصه من يده جائز، ثم ?لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا? فظهر أن نزعه من يده على سبيل الوجوب لا وجه له، لأن النهي عن إنفاقه في المعاصي كاف في الزجر.(1/592)
مسألة: الكسب
مسألة: والتكسب أي السعي في طلب الرزق جائز، بل قد يجب وذلك في حق من لم يكن عنده من المال ما يسد فاقته وعائلته، فيجب عليه السعي وطلب الحلال من باب ما لا يتم الواجب إلا به، وكون الله سبحانه وتعالى قد تضمن أرزاق العباد لا ينافي وجوب السعي، إذ من الجائز أنه تعالى تضمن تيسيرها وتسخيرها وخلق الأعيان المرزوق بها عند السعي والطلب، وقد يكون التكسب مندوباً وذلك لطلب الزائد على ما سد الفاقة إرادة إنفاقه في وجوه البر والإفضال على النفس والعائلة بما جرت العادة بمثله لمثله من الفضلات ولإظهار نعمة الله سبحانه وتعالى والتجمل بذلك عند الناس، وقد يكون محظوراً حيث كان القصد بجمعه المكاثرة والمفاخرة التي لا حاجة لها وكمن يريد إنفاقه في المعاصي، وكمن يمنعه جمعه مع الاستغناء عنه فعل واجب كالجهاد وتعلم الجاهل ما يجب معرفته من معالم الدين، وقد يكون مكروهاً حيث كان معه من الكفاية ما يقوم بمحتاجاته ولم يقصد بجمعه أحد الوجوه المحرمة، وكان جمعه يشغله عن المندوبات وفِعلُ المودات والسعي في الخيرات كالإصلاح بين الناس والتصدي لمصالحهم كتحمل الشهادات لأدائها عند الاحتياج رعاية لحقوق الخلق، وقد يكون مباحاً وذلك فيما عدا ما ذكر من الأحكام الأربعة، وقد يصعب تمثيله إذ لا يخلو عن وجه يقتضي أحد الأربعة وأقلها ما يقتضي الكراهة، إذ لا يخلو كل اشتغال بالجمع عن أن يكون شاغلاً عن فعل ما هو أولى منه من طلب العلم ودرس القرآن والأذكار المندوبة، والله أعلم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا القناعة عن حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة.(1/593)
مسألة: زعم أهل التكاسل والمدلسين من المتصوفين أن التكسب حرام، لأنه ينافي التوكل على الله سبحانه في تيسير الأرزاق وتسخيرها، وقال قوم: إن ذلك حرام من حيث أن قد فسد الزمان وكثرت المعاملات الفاسدة من الغصب والربا والخداع وأخذ الرشا وعطاء سلاطين الجور ما أخذوه كرهاً من الرعايا، فصار غالب ما في أيدي الناس حراماً فلا تجوز المعاملة معهم ببيع ولا شراء ولا استوهاب ولا غير ذلك لأنه لا يؤمن تناول الحرام.
والجواب عليهم الجميع: إن أقوالهم هذه تؤدي إلى رفع ما علم بضرورة العقل حسنه، وأجمعت الأمة قبلهم من الصحابة والتابعين ممن بعدهم إلى زمن هؤلاء المخالفين وعلم من الدين ضرورة جوازه بل ورد الشرع بندبه وهو التكسب من الوجه الحلال، ومعارضة ذلك بتجويز مصادفة الحرام لا تقتضي رفع الحكم الثابت قطعاً بضرورة العقل والعلم من الدين ضرورة، ووجوب تجنب الحرام إنما هو عنه قضية خاصية ببعض الأفراد في بعض ما سيتناوله بأن يعلم أو يظن أن السلعة المشتراة مغصوبة أو نحو ذلك وهذا نادر الوقوع، فلا يصح رفع الحكم المعلوم لما ما عداها المستند إلى الأصل وهو الإباحة والحسن العقلي والندب الشرعي، وأيضاً فإنه لا يسلم منافاة سعي التوكل بل التوكل يصاحب السعي وقد يلازمه في المؤمن العارف، لأن الزرّاع يلقي بذره متوكلاً على الله تعالى في إنباته وتيسر الأمطار والأنهار لسقيه وحفظه من الجوائح، ولأن التاجر يتحمل مشقة الأسفار والأخطار من ركوب البحار وقطع المفاوز متوكلاً على الله تعالى في تيسير البيع والشراء وحفظ الأموال وحصول الربح، فليس الأمر كما زعموه بل هو على ضد ما توهموه.(1/594)
فرع: قال الإمام المهدي عليه السلام : إنا نحفظ عن الآباء والسلف وجوب التكسب على النفس وسائر من يلزم الإنسان الإنفاق عليه، قال: وإنما استغنى الله سبحانه وتعالى عن أن يصرح بوجوب ذلك بأدلة قطعية بما قد ركز في عقل كل عاقل من حسن ذلك والإلجاء إلى فعله بالاحتياج الضروري إلى ما يسد الفاقة ويواري السوأة. ذكر معنى ذلك عليه السلام في الغايات.(1/595)