وبعد فلم يعط الله تعالى أحد شيئاً من حرام، لأن جميع الذوات والمعاني التي خلقها ورزقها العباد من الأثمار والأنهار، وجميع المآكل والمشارب ومن الأسماع والأبصار والأفئدة، وجميع المعاني المنعم بها على الخلق لا يتأتى وصفها بالتحريم والتحليل نظراً إلى كونه تعالى الموجد المعطي لها، وإنما يتأتى ذلك نظراً إلى إعطاء المكلفين إياها سائر الخلق باعتبار ما حظره الشارع وأباحه لهم، وإذا كان كذلك فلم يدخل الحرام في العطاء المنسوب إلى الله تعالى فلم يشمله الحد بل أخرجه كما ترى، وهذا واضح لا غبار عليه.
قالوا: الإعطاء الذي يفعله الخلق من بعضهم إلى بعض يشمل الحرام والحلال، والمعطي الفاعل لذلك هو الله تعالى لأنه لا فعل للعبد.
قلنا: بناءاً على الجبر وقد مر إبطاله.
قالوا: لو لم يكن الحرام رزقاً لكان الظالم الذي لا يأكل إلا من المظالم لم يجعل الله له رزقاً، ولكان المظلوم الذي غصبت عليه تلك المظالم لم يأكل رزقه فما ذاك إلا أنه رزق لمن أكله دون من لم يأكله، وإن كان غير مملوك وحلال للأول ومملوكاً حلالاً للثاني فلا تلازم.(1/586)


قلنا: أما لزوم لم يجعل الله رزقاً للظالم فلا يسلم، لأنه من جملة الخلق الذي خلق الأثمار ونحوها والقوى ونحوها لهم، ولكن جعل لتناول الأعيان المرزوق لها وجوهاً تقتضي التحليل ووجوهاً تقتضي التحريم فأمره وأباح له التناول من هذه كالاحتطاب من المباح وكالميراث وما اكتسب من تجارة أو حراثة أو هبة أو صدقة أو نحو ذلك، ونهاه وحظر عليه هذه كالغصب والربا ونحو ذلك، فما أمره به وأباحه له فهو ما رزقه، وما نهاه عنه وحظره عليه فهو ما لم يرزقه، ولو ترك الظالم أكل المظالم وعمد إلى الاكتساب الحلال من الاحتطاب أو التجارة أو النجارة ونحو ذلك لتناول رزقه الذي كتبه الله تعالى له وهذا لا شك فيه، ولكنه خالف أمر الله تعالى وترك الحلال وعمد إلى الحرام فأُتي من جهة نفسه، فأين لزوم أن الله تعالى لم يجعل له رزقاً لو ترك الحرام؟ وأما لزوم أن المغصوب عليه لم يأكل رزقه، فغير قادح إذ لا نزاع أن المتصدق به ونحوه من الحلال رزقاً لمن أعطاه الله إياه وإن لم يأكله بل تصدق به إذا أعتق أو نحو ذلك من وجوه البر.
إلزام: يقال لهم: إذا كان الحرام رزقاً فليس بأن يترك أولى من أن يتناول لأن النهي وإن دل على المنع فإن الإعطاء أدل منه على الإباحة، ألا ترى أن السيد إذا نهى عبده عن أكل شيء دل على المنع، وإذا أخذ السيد ذلك الشيء وأعطاه العبد دل على إباحة أكله له، فيلزم تحليل كل ما تناوله الظالم من مظلمة أو رباً أو تطفيف كيل أو نحوه بمجرد التناول، ويلزم رفع التحريم بأسره في جميع المحرمات على أصلهم المنهار: أنه تعالى خلق أفعال العباد.(1/587)


فرع: والرازق والرزاق هو الله تعالى لا غيره، لأن غيره وإن صدق عليه أحد معنى الرزق وهو الإعطاء فلا يطلق عليه اسم رازق أو رزاق، لأن هذين الاسمين عند الإطلاق لا ينصرفان في الأفهام إلى غيره تعالى فكأنهما قد صارا حقيقة دينية أو عرفية عامة فيمن فعل الإعطاء مستمراً أو من أوجد الأعيان والمعاني المرزق بها، ويصير حالهما كحال الرحمن والرحيم فإنهما وإن اشتقا من الرحمة وهي من الصفات الحاصل معناها في المخلوق حقيقة، فلا يوصف غيره تعالى بالرحمن والرحيم لأنهما قد اختصا بالله تعالى حقيقة دينية أو مجاز عقلي على خلاف بين أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم، وأما قوله تعالى: ?وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ?{الجمعة:11}، فالمراد المعطين والاسم الشريف واسم التفضيل مع الإضافة وصيغة الجمع سوغ إطلاق رازق على غيره تعالى، إذ ليس في ذلك وهم خطأٍ كما في إطلاق الرازق على غيره تعالى معرفاً أو منكراً فلا يقال فلان الرازق أو فلان رازق، لإيهام الأول الحصر والدوام والثبات، وإيهام الثاني الأخيرين فلا يجوزان على غيره تعالى، وأبلغ منهما في عدم الجواز الرزاق ورزاق لما فيهما من المبالغة.
فرع: وقد ينسب الرزق إلى غيره تعالى كقوله تعالى: ?فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ?{النساء:8}، قال النجري: وهو ظاهر عبارة القلائد مجاز،وقال السيد هاشم: بل حقيقة بالمعنى الآخر من معنى الرزق وهو الإعطاء ذكر معنى ذلك في تعليقه.(1/588)


قلت: الأظهر والله أعلم، أنه إذا كان الرزق يستعمل في اللغة حقيقة بمعنى الإعطاء فالحق ما قاله السيد هاشم رحمه الله ويكون مشتركاً،وإن كان لا يستعمل إلا في العين المرزوق بها فالحق ما قاله النجري رحمه الله، وقد قال شيخنا أحمد بن محمد الجرافي رحم الله مثواه في حاشيته على الإرشاد الهادي ما معناه: الذي في كتب اللغة أن مصدر رزق الرَّزق - بفتح الراء - وأن الرزق بالكسر اسم المرزوق، فافهم كلامه رحمه الله تعالى، أن الرزق بالكسر لا يستعمل إلا في الأعيان المرزوق بها واستعماله في الإعطاء مجازاً.
ويتفرع على هذا هل الرزق ليس إلا من الله تعالى فقط أو يكون من الله ومن العبد حقيقة ؟ من الله تعالى بالمعنيين معاً ومن العبد بمعنى الإعطاء حقيقة، فيما كان بلا عوض كالمعطى بالهبة والصدقة ونحوهما فتسمى رزقاً فيطلق الرزق على الهبة والصدقة حقيقة.(1/589)


وحينئذ لا نزاع بين العدلية أن الرزق يسند إلى العبد على الجملة وأنه فاعل حقيقة لنفس الفعل الذي هو الهبة والصدقة، وإنما النزاع هل يسند إلى العبد حقيقة بمعنى كونه المعطي أم مجازاً كشربت الإثم، وقد قال تعالى: ?فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ? والأصل الحقيقة، ولكن محل النظر إذا قلنا: إن ذلك من باب المجاز فهل التجوز في الإسناد أم في تسمية فعلهم رزقاً ؟ فالأول لا قائل به من أهل العدل، وخالف في ذلك المجبرة بناء على أن أصل الفعل من الله تعالى، والثاني هو مقتضى كلام النجري، ولعل المجبرة لا ينازعون فيه وهو أمر وراء محل النزاع بين الفريقين، ومقتضى كلام السيد هاشم أنه لا تجوز في الآية أصلاً أما الإسناد فهو حقيقي، وأما أن ما فعلوه يسمى رزقاً فهو حقيقة بمعنى الإعطاء،وحينئذ فإطلاق حكاية الخلاف عن المجبرة والاحتجاج عليهم بلزوم عدم استحقاق الثواب في الصدقة ونحوها يحتاج إلى تأمل وتفصيل، هل المراد الخلاف الراجع إلى اللفظ وهو أنه يسمى ما صدر من جهة العبد من الهبة والصدقة رزقاً ؟ فالاحتجاج غير صحيح لأن المبحث حينئذ لغوي، ولا تثبت اللغة بالحجج العقلية بل بالوضعية ومع ذلك يصير البحث قليل الجدوى أو لا مشاححة في اللغة، أم المراد بالخلاف الراجع إلى المعنى وهو أن العبد فاعل للفعل الصادر من جهته وهو الإعطاء فالاحتجاج صحيح غير أن المسألة كما في القلائد وشرحها وكما في الأساس وشرحه مسوقة في أنه لا يقدر على الرزق إلا الله تعالى وأنه يطلق اسم الرازق على غيره مجازاً ففي الكلام ما فيه.
ويمكن الجواب عن ذلك بأن هذا من باب التوزيع وهو نوع من البلاغة والبديع بأن يرجع بعض المباحث المتعاقبة بعد اللفظ المتقدم بعضها إلى اللفظ وبعضها إلى المعنى ويعتمد في توزيع كل منها وإرجاعه إلى اللفظ أو إلى المعنى على فهم المخاطب، والله أعلم.(1/590)

118 / 311
ع
En
A+
A-