مسألة: ذكر القرشي رحمه الله تعالى في الآجال: أنها لطف للمكلفين. قال: ومعنى كونها لطفاً لنا يختلف باختلاف المراد بالأجل، فإن أريد بالأجل العمر وأوقات الحياة لم يصح كونه لطفاً لذلك المعمر لأنه من قبيل التمكين ويجوز أن يكون لطفاً لغيره، إذ لا يمتنع أن يعلم الله سبحانه وتعالى أن عند بقاء زيد يختار عمرو الطاعة، وإن أريد بالأجل وقت الموت فمحال أن يكون لطفاً للميت، إذ لا تكليف بعد الموت، ولكن لا بد أن يكون لطفاً لغيره من المكلفين إذا حصل بالإماتة ألم، ويجوز أن يكون علم زيد بأنه يموت لطفاً له فيكون أجله لطفاً بهذا المعنى انتهى.
قلت: وقوله: إذا حصل بالإماتة ألم. لا معنى لهذا الاشتراط لأن الموت يقع به الاعتبار والالتطاف ولو قدرناه خالياً عن الألم كما هو معلوم فيمن اعتبر وتذكر، وقوله: يختلف باختلاف المراد بالأجل الخ. كلام جيد، ويمكن أن يزاد فيه بأن يقال باختلاف طول الأعمار وقصرها وتوسطها، واختلاف أسباب الموت من الأمراض والأسقام وطول المرض وقصره وموت الفُجأة وموت القتل باعتبار التمكين منه، ففي جميع ذلك لطف للمكلفين واللطف في الحقيقة هو بالعلم بهذه الأعمار وأسباب الموت التي شاهدها المكلف في غيره وبعدم علمه بمقدار عمره وسبب موته مع علمه أنه لابد من ذلك لا محالة.(1/581)
مسألة: الأعمار والآجال
مسألة: ومعنى كون الله تعالى كتب الأعمار والآجال وقدرها ونسخها: ثبوتها في علمه على مقادير معلومة عنده وأسباب مقدرة، ثم نسخها أزالها -أي الأعمار- بالموت والأجل المضروب في علمه لزوال حياة الحي، أو كتب في اللوح عمر فلان كيت وكيت وموته في الوقت الفلاني بسبب كذا أو كذا، ويكون ذلك لطفاً للملائكة عليهم السلام ومن أعلم بذلك من نبي أو بُلِّغَه عن النبي، فيكون الاعتبار والالتطاف في حقهم باعتبار انكشاف الموافقة والمطابقة لما كتب في ذلك اللوح،وفي حق غيرهم باعتبار علمهم أو ظنهم ثبوت ذلك في علم الله تعالى أو كتبه على الجملة، لأن جميع ذلك داع إلى الاعتبار والالتطاف لمن لم يجعل الدنيا نصب عينيه وأكبر همه، ويدل على ذلك قوله تعالى: ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا?{فاطر:11}، ?وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?{فاطر:11}، وفي الآية سؤلان لا بأس بالتعرض لهما تكميلاً للفائدة:
أحدهما: أن يقال كيف قابل قوله: ?وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ?، بقوله: ?وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ?، مع أن النقصان يقابل بالزيادة لا بالتعمير ؟(1/582)
وجوابه: أن المراد بقوله: ?وَمَا يُعَمَّرُ ? أي ما يزاد في عمر أحد قد عمر العمر الغالب في الناس ولا ينقص عن ذلك العمر الغالب، فيكون قد قابل النقصان بالزيادة، وهذا لا إشكال فيه، أو يكون المعنى لا يزاد في عمره المحدود له إذا فعل ما لأجله يزيده الله عمراً من صلة الرحم أو ينقص عنه إذا فعل ما لأجله ينقصه الله عن ذلك العمر من قطيعة الرحم كما ورد في الحديث: " إن صلة الرحم منساة في الآجال وزيادة في الأعمار "، وهذا بناءٌ على أن المفروض والمعلوم أن لكل ممن وصل رحمه أو قطعه أجلان: أحدهما مشروط بالصلة أو قطعها، والآخر بخلافه وفيه ما فيه ولا مانع، والله أعلم.
وثانيهما: أن يقال كيف قال تعالى: ?وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ? مع أن المعمر لا يعمر لأنه كتحصيل الحاصل وإماتة الميت وإحياء الحي، ومع أن من قد عمر ومضى من عمره ما مضى أو انقضى عمره بالموت لا يتأتى النقص في حقه ؟
وجوابه: يؤخذ من جواب السؤال الأول، وبأن يقال ليس المراد بقوله ما يعمر العمر الذي قد مضى أو انقضى، بل المراد ما يزاد على ما قد مضى وسواء كانت الزيادة بسبب صلة رحم أو فسحة في الأجل، وليس المراد بالنقص عنما قد مضى أو انقضى حيث أن ذلك محال، بل المراد بالنقص مما بقي من عمره إما بسبب قطع رحم أو بالنسبة إلى من هو أطول منه عمراً، وقد قيل: إن معنى ? وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ? ولا يمضي من عمره عام أو شهر أو يوم أو ساعة بأن يكون المولود عند ولادته قد جعل الله له عمراً طويلاً أو قصيراً أو متوسطاً، فلا يُنقص بتغيير الصيغة للمفعول من عمره ذلك المحدود بما مضى منه ?إِلا فِي كِتَابٍ? إلا مكتوباً ما مضى منه أو ثابتٌ في علم الله تعالى ما مضى وما بقى، وهذا جيد وهو يعود إلى معنى ما ذكر، والله أعلم.(1/583)
الأرزاق
القول في الأرزاق:
اعلم أن الرزق مصدر يقال: رزق يرزق رزقاً فهو مرزوق ورازق، وهو إعطاء الغير الذات المنتفع بها أو ما في معناها، فالذات المنتفع بها كالأثمار والحبوب والمشارب والأولاد والدواب وما في معناها كالقوى والحواس الخمس وغير ذلك من المعاني المنتفع بها، ثم أنه استُعمل بعد ذلك في الذات المعطاة وما في معناها قال تعالى: ?وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ?، فسمى الذوات المخرجة رزقاً، قال في المصباح: والرزق بالكسر اسم للمرزوق والجمع أرزاق مثل حمل وأحمال فصار للرزق معنيان: أحدهما نفس المصدر ومعناه الإعطاء، والثاني العين المنتفع بها وما في معناها، وهل صار حقيقة فيهما معاً بالاشتراك أم حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؟ الأظهر الأول، قال سيد المحققين عليه السلام : الوجه في ذكره أنه من أفعال الله سبحانه وتعالى الدالة على عدله وحكمته وفيه مصالح الخلق ومنافعهم فهو من أصول النعم التي تفرد الله تعالى بها انتهى.(1/584)
قلت: وأيضاً فإن فيها وفي بسطها لبعض الخلق وتقتيرها على البعض الآخر واختلاف وجوه تناولها حيث تيسر لبعضهم بالتجارة وبعضهم بالبحارة وبعضهم بالحراثة ونحو ذلك، ولو حاول الانتقال عن تلك الحرفة لتعذر عليه أو تعسر، ففي جميع ذلك من الاعتبار والألطاف ما لا يعلم كنهه إلا لمن تدبر قال تعالى: ?وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ?{النحل:71}، وقال تعالى: ?وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ? {النساء:32}، وأيضاً فإن في تقتيرها وبسطها واختلاف أحوال الخلق بالنسبة إليهما من البلوى والامتحان ما عنده يجب الصبر والشكر اللذين ينال بهما الثواب، وفيما شرع من الإنفاق من الرزق في وجوه البر كالزكاة وصدقة النفل والإنفاق على النفس والعائلة والأقارب وسائر الخلق، وكالإنفاق في الجهاد واتقاء الوافد وإصلاح الطرقات والمناهل وكالعتق والوقف وسائر وجوه الخير كل ذلك تعريض للمكلف وتيسير لمقتضى الثواب الدائم.
إذا عرفت ذلك علمت أن الحرام لا يدخل في مسمى الرزق لأنه منهي عن تناوله والانتفاع به وهذا قول العدلية كافة.
وقالت المجبرة: بل يدخل فيه الحرام والحلال، وإنه يستعمل في مجرد الإعطاء أعم من أن يكون حراماً أو حلالاً.
قلنا: لا نسلم أنه في مجرد الإعطاء بل في الإعطاء من الحلال فقط.
وبعد فلم تطلقه أئمة اللغة إلا على الإعطاء من الحلال ذكر ذلك الإمام المهدي وسيد المحققين عليهما السلام.
وبعد فلئن سلمنا على التنزل أنه في مجرد الإعطاء نظر إلى أصل اللغة فما المانع من أنه قد نقل في الشرع إلى الإعطاء من الحلال دون الحرام؟ دليله: أن الله تعالى قد ندب ومدح على الإنفاق من الرزق وهو تعالى لا يندب ولا يمدح من أنفق من الحرام.(1/585)