وأخرج المرشد بالله ومسدد والبخاري عن عائشة مرفوعاً: " ما يصيب المؤمن من شيء إلا كان له أجر وكفارة حتى الشوكة والنكبة ".
وأخرج المرشد بالله عنها: " ما من مؤمن يشاك شوكة فما فوقها إلا حُط عنه خطيئة ورفع له درجة ".
وأخرج المرشد بالله وأبو الشيخ: " إن أعظم البلاء مع أعظم الجزاء وإن الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ".
وأخرج البخاري وأبو داود عن أم العلاء: زارني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريضة فقال: " أبشري يا أم العلاء فإن مرض المؤمن يذهب به الله خطاياه كما تذهب به النار خَبَث الذهب والفضة ".
وأخرج المرشد بالله عن عائشة مرفوعاً: " إذا اشتكى المؤمن أخلصه ذلك كما يخلص الكير" الحديث، ذكر هذه الأحاديث شيخنا رحمه الله تعالى في السمط متفرقة وغيرها في السنة لا حاجة في التطويل بذكرها، وهي تدل بعضها على الاعتبار وبعضها على العوض وبعضها عليهما معاً. وقد اختلف من لا يشترط اجتماع الأمرين معاً فقال أبو علي: يحسن للعوض من دون اعتبار.
قلنا: يمكن الابتداء بالعوض من دون ألم فيكون عبثاً وظلماً.
وقال عباد بن سليمان الصيمري: العكس يحسن للاعتبار من دون عوض.
قلنا: لا يمكن اطراده في كل ألم لأن الأطفال والبهائم لا اعتبار منها.
فإن قيل: لاعتبار المكلف في حقها.
قلنا: يكون كنفع زيد بإضرار عمرو فلا يحسن إلا مع تعويض عمرو وإلا كان ظلماً له.(1/571)
وذهب الإمام القاسم بن محمد قدس الله روحه إلى تفصيل في الآلام من حيث هي، قال شيخنا رحمه الله تعالى: تفصيل عجيب لم يسبق إليه، حاصله: أنه لا يخلو الألم إما أن يكون من الله تعالى أو من العبد، فإن كان من الله فيحسن لغير المكلف لمصلحة يعلمها الله تعالى له. ولم يعين عليه السلام في ذلك عوضاً ولا اعتباراً لإمكان الابتداء بالعوض ولفقد الاعتبار في ذلك بالنظر إلى المؤلم نفسه، ولا جَوَّز خلوه عن أحدهما بل رد على أبي علي وعباد في ذلك وأجمل ولم يفصل، وإن كان بمكلف فإما أن يوقعه بمؤمن أو بغيره، فإن كان بمؤمن حسن لمصلحة يعلمها الله تعالى له أو لاعتبار نفسه أو لحط سيئاته أو لتعويضه لثواب الصبر أو لمجموع الجميع، وإن كان بغيره من كافر أو فاسق فيحسن تعجيل عقوبة فقط ولاعتبار نفسه فقط، يعني أن كل واحد منهما كاف في الحكمة ولمجموعهما، يعني يصح في ألم صاحب الكبيرة إنزاله للعقوبة والاعتبار ولا يصح عنده عليه السلام إنزاله بصاحب الكبيرة للعوض إذ لا عوض له ولا للتعريض لثواب الصبر من دون توبة ولا لحط السيئات من دون توبة لعدم قبول الطاعة من صاحب الكبيرة وعدم التكفير في حقه خلافاً لرواية المهدي عليه السلام عن العدلية فقالوا: لا بد من العوض يكون بالحط من عقاب ذنوب السيئات وتخفيفه عن الكافر والفاسق، واحتج القاسم عليه السلام لعدم التخفيف بقوله تعالى: ?ولا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا? {فاطر:36}، ولعدم الثواب والعوض بقوله تعالى: ?وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ?{الأعراف:40}، قال المهدي عليه السلام : ومثله حكاه شيخنا رحمه الله عن المؤيد بالله عليه السلام ويقسط التخفيف على أوقاته تقسيطاً لا يشعر بموضع التخفيف منه.(1/572)
قلت: وفي اشتراط عدم الشعور بذلك نظر، لأنه لو أشعر المعذب بما أسقط من عقابه ما وقع عليه من الألم في الدنيا لكان ذلك أبلغ في الحكمة لما في ذلك من تنزيه الله تعالى أن يكون ذلك الألم ظلماً له وعبثاً، وأما تعليلهم عدم الإشعار بأنه لو أشعر لفرح بذلك، فلا وجه له إذ لا فرح مع بقائه في النار، وإن فرض على بعده بل استحالته فلا مفسدة فيه بل المفسدة في عدم إشعاره بما خفف من عذابه المستحق لو لم يؤلم، والاحتجاج بظاهر الآية على عدم التخفيف رأساً فيه نظر أيضاً، إذ يمكن حملها أن المعنى لا يخفف عنهم مما قد استحق بعد المساقطة لما يجب في مقابل الأمراض ونحوها مما وقع بهم في الدنيا،وأما العوض بالمنافع والتعويض لثواب الصبر عن الألم فإن علم الله سبحانه وتعالى أنه سيكون من صاحب الكبيرة التوبة النصوح فلا مانع لأيهما أو لمجموعهما، وإن تأخرت التوبة وإلا فلا دلالة في الآية الأخرى على منع هذه الصورة، والله أعلم.
وقال أبو هاشم: لا يصح أن يكون تعجيل عقوبة وخالفه أبوه أبو علي ومثل قول أبي هاشم عن المنصور بالله، قال شيخنا صفي الإسلام رحمه الله تعالى في حاشيته: وحكي عنه أنه قال في شرح الجزء الثاني من الرسالة الناصحة عند قوله عليه السلام :
دَارُ الجزاءِ يا قومُ دارُ الآخرةِ .... إِنَّا شَرِبنا من بحارٍ زَاخِرَهْ
إن أهل البيت عليهم السلام مجمعون على أنه لا عقاب في الدنيا، قال وكلام هؤلاء الأئمة يدفعه والأدلة عليه قائمة انتهى.(1/573)
قلت: ويمكن دعوى الإجماع أنه لا عقاب مستوفى والله أعلم، وأما إذا كان الألم الواقع بالمؤلم من العبد فإما أن يكون الجاني مكلفاً أم لا، إن كان مكلفاً حسن للقصاص أو التأديب فقط لا لعوض ولا لاعتبار لأنهما لا يحسنان إلا من الحكيم على الإطلاق المالك الحقيقي وليس إلا الله تعالى، وإن كانا غير مكلفين لم يحسن، لكن لا عقاب على الجاني إلا أنه يحسن تأديب المميز بما يقتضي الزجر عن العَوْدِ.
فإن قيل: إذا نفيتم الحسن عنه فهل تصفونه بالقبح، فكيف نفيتم العقاب عن فعل القبيح أم لا، فكيف رفعتم النقيضين على أصلكم؟.
قلنا: هو قبيح لكن شرط استحقاق العقاب عليه تكليف فاعله، ويكون للمجني عليه عوض من الله تعالى بسبب فعله التمكين والتخلية بينهما، وكذا في جناية غير المكلف على المكلف، وإن كان الجاني مكلفاً والمجني عليه غير مكلفاً قبح بكل حال، فإن كان عمداً عوقب على جنايته، وإن كان خطأ حط من سيئاته بقدر جنايته وعوض بها المجني عليه، فإن لم يكن له حسنات فالعوض من الله تعالى، ويزاد في عقاب الجاني الكافر أو الفاسق بقدر جنايته، وإن كان المجني عليه مكلفاً مؤمناً فكذلك، وإن كان غير مؤمن زِيْدَ في عقاب الجاني وأخبر المجني عليه بذلك.
قال الهادي عليه السلام : وليس له شيء سوى الإخبار بزيادة عقاب الجاني عليه.
وقال المهدي عليه السلام وغيره: بل يحط من عقابه بقدر ما وقع عليه من الجناية، وأما جناية المؤمن خطأ والتائب فكجناية الصبي إن العوض في ذلك من الله تعالى.
وعن المهدي والبهشمية: بل يؤخذ من أعواضهما بقدر جنايتهما،وقال الإمام: يجوز الوجهان.(1/574)
مسألة: ويبعث الله البهائم لتعويضها
مسألة: ويبعث الله البهائم لتعويضها، وهذا قول أهل البيت عليهم السلام.
وقال أبو هاشم: يجوز أن تعوض في الدنيا فلا تعاد.
وقال عباد: تحشر ثم تبطل بمصيرها تراباً، وقيل: يدخل الجنة منها ما كان محبوباً والنار ما كان منفوراً مع كونها متلذذة بها.
لنا: على ثبوت بعثها قوله تعالى: ?وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ?{الأنعام:38}، ?وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ?{التكوير:5}، وعلى ثبوت العوض قوله تعالى: ?وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا?{الأنبياء:47}، فلو لم تعوض في مقابل آلامها لكانت مظلومة.(1/575)