الفلاح والمحنة والنعمة
والفلاح: هو الظفر بما فيه النفع الخالص عن أن يعقبه شيء من الشر، فلا يقال فيما يمد الله به الظالمين من زهرة الدنيا وزخرفها فلاح [ وسواء كان ذلك ] الذي يبلوهم به وينزله عليهم [ مِحْنَة ] كالأمراض والنقائص والجوائح [ أو نِعْمَة، ] كتيسير الأرزاق وسعتها وطول الأعمار وزيادتها وتقوية الأبدان وصحتها، وسواء كان ذلك بمؤمن أو بكافر أو فاسق، فإن ذلك كله إنعام على من فعل له، وإن عمل الكافر والفاسق بخلاف موجبه وهو استعمال الأرزاق والأبدان واستغراق الأعمار في طاعة المنعم وصرف ذلك إلى معاصيه وظلمه وتغلبه على أهل الحق، فإنما أُتي في ذلك من جهة نفسه ولم يكن الله سبحانه وتعالى بذلك الذي فعله معه فاعلاً مفسدة وإن ترتب وقوعها على حصول شيء منها، إلا إذا قدرنا أنه تعالى أراد إعانته وإغراءه على فعل تلك المعصية وحاشاه.(1/566)
الله تعالى لا يفعل إلا الصواب والحكمة
[ لأنه تعالى لا يفعل إلا الصواب والحكمة كما تقدم، ] في أول العدل أنه تعالى لا يفعل القبيح [ فإذا أمرضهم أو ابتلاهم ] بخير مما يحبونه من صلاح الثمار وسعة الأرزاق ونحو ذلك أو شر مما يكرهونه من أضداد ذلك أو بتكليف أو يفعل ما يزيد في مشقته كتمكين العدو من مقاتلتهم، والدليل على أن الكل بلوى قوله تعالى: ?وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً?{الأنبياء:35}، وقوله تعالى: ?إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا?{الإنسان:2}، [ أو امتحنهم بفوات ما أعطاهم، ] كنقص بعض الثمار أو تفويتها بالجوائح والعاهات أو موت الدواب وشحة الدرور وغير ذلك [ فلا بد ] في جميع ذلك من حكمة ومصلحة راجعة إلى الخلق.(1/567)
الامتحان والعوض
وقد اختلف الأصحاب في تعيين تلك الحكمة والمصلحة فقال جمهور العدلية: لا بد في كل ألم ونحوه من المضار والنقائص [ من ] أمرين:
أحدهما: [ اعتبار المكلفين ] وحقيقة الاعتبار: هو ما يحدث في النفس من الدراية والوجل عند مشاهدة نحو ذلك أو العلم بما يدعو إلى فعل الطاعة أو ترك المعصية،وإنما قلنا لا بد من الاعتبار [ ليخرج ] الألم [ بذلك عن كونه عبثاً، وقد نبه الله ] تعالى [ على ذلك بقوله تعالى: ?أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ] أي يمتحنون في كل سنة مرة بنقص إحدى ثمرتها التي تكون إحداهما في أول الشتاء ويعبر عنها في العرف بالصراب، والأخرى في أول الصيف وأواخر الربيع ويعبر عنها بالقياض، أو مرتين بأن يقع نقص في كليهما معاً ويحتمل غير ذلك من سائر الامتحانات، وليس المراد بذكر المرة أو المرتين القصر عليهما فقد يكون الامتحان في جملة السنة أكثر من ذلك، وإنما المراد التنبيهُ بما هو كاف في التذكير والاعتبار [ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ? ]{التوبة:126}، وهذا نَقْمٌ وإنكار عليهم في عدم الاعتبار والتذكر المفضي إلى التوبة الموجبة للنجاة عن عقاب معاصيهم أو المخلصة لهم والرافعة عنهم تلك المحنة.(1/568)
[ و ] الأمر الثاني: أنه [ لا بد ] مع ذلك الاعتبار [ من العِوَض ] للمُؤْلَم [ المُوَفِّي ]، هكذا حفظناه وضبطناه عن النسخ والمشائخ بالياء بعد الفاء، ويمكن أن يكون بالراء الموفر لمناسبة قوله [ على ذلك بأضعاف مضاعفة، ] من دون احتياج إلى تقدير أي الموفي على ما يستحق على الألم والزائد على ذلك بأضعاف مضاعفة، أو يكون من باب التضمين بأن يضمن الموفي معنى الموفر أو الزائد، وإنما كان التوفير بأضعاف مضاعفة لأنه مهما كان أنقص أو مساوياً لم يكن فيه مصلحة، غير أن قولنا: بأضعاف مضاعفة. لا يقتضي معرفة المقدار الذي به يبلغ الحد اللازم الذي يخرج به عن لزوم خلو المصلحة والحكمة فيقال كما هو عبارة بعض المؤلفين بحيث لو خير العاقل بين ذلك الألم مع العوض المضاعف وبين تركه مع ترك العوض لاختار الألم قطعاً لما فيه من المصلحة له، ثم بين الدليل على لزوم العوض عقلاً بقوله [ ليخرج بذلك عن كونه ظلماً، ] لأنه مهما كان ذلك الألم عادياً عن العوض للمؤلم كان إذاً ظلماً [ وقد ورد ذلك ] أي ما يدل على ثبوت العوض، ويمكن عوده إلى الأمرين معاً أي ما يدل على الاعتبار والعوض [ في السُنَة كثير، والغَرَض الاختصار. ] من ذلك ما أخرجه الترمذي عن جابر مرفوعاً والمرشد بالله والبغوي وأبو نعيم والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً: " وَدَّ أهل البلايا يوم القيامة حين يعاينون الثواب أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض " ذكره شيخنا رحمه الله تعالى في سمطه وهو في أمالي المرشد بالله عليه السلام بهذا اللفظ ذكره شيخنا أيضاً في حاشيته على المتن بلفظ: " يتمنى أهل البلايا أن لو قرضت أجسادهم بالمقاريض لما يرون من كثرة الثواب" ولم يعز هذا اللفظ إلى أحد خرجه، ولعله رواه بالمعنى كما يفهم من قوله بعده أو كما قال ونحوه في أمالي المرشد بالله وغيرها انتهى كلامه رحمه الله تعالى.(1/569)
وأخرج المرشد بالله والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: " من أصيب بمصيبة في جسده فكتمها فلم يشكها إلى الناس كان حقاً على الله أن يغفر له ".
وأخرج المرشد بالله ومالك والبخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: " من يُريد الله به خيراً يُصِبْ منه ".
وأخرج الإمام الناطق بالحق أبو طالب عليه السلام وأبو داود عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " أن المؤمن إذا مرض ثم عوفي كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة فيما يستقبل، وأن المنافق إذا مرض ثم عوفي كان كالبعير عقله أهله فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه " وهذا الحديث كما يدل على ثبوت العوض فهو يدل على ثبوت الاعتبار.
وأخرج البخاري عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً ".
وأخرج المرشد بالله والطبراني عن أبي أمامة مرفوعاً: " أن المسلم إذا مرض أوحى الله إلى ملائكته فيقول يا ملائكتي إني قد قيدت عبدي بقيد من قيودي فإن قبضته أغفر له وإن عافيته فجسد مغفور لا ذنب له ".
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله إذا أنزل بعبده ألماً أوحى إلى حافظيه أن اكتبا لعبدي أفضل ما كان يعمل في حال صحته ما دام في وثاقي فإذا أُبل من علته خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " نقله شيخنا رحمه الله تعالى ولم يذكر مخرجه لكن حكاه عنه المنصور بالله مرسلاً.
وأخرج المرشد بالله والقاضي في أماليه: " يقول الله عز وجل إن من عبادي المؤمنين لمن لا يُصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك إني أدبرهم بعلمي ".(1/570)