الألم
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الأَلَم: جِنْسٌ يشمل الأمراض وما وقع من الجنايات الواقعة من بعض الحيوانات على بعض، وحقيقته: هو المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع النفرة وهو من فعل فاعل، وقالت الطبائعية: بل من الطبع.
قلنا: حادث مع الجواز. ونعني بقولنا: مع الجواز. أن حدوثه مع جواز أن لا يحصل فلا بد من فاعل، وإلا لم يكن بأن يقع أولى من أن لا يقع، ولا بأن يقع على وجه أولى من أن يقع على وجه آخر، ولا مختصاً بشخص وزمن أولى من أن يعم أو بشخص وزمن آخر، فلا بد أنه بفعل فاعل دون غيره من طبع أو مادة أو خاصية وإن توقف حصوله في بعض الأوقات على تناول شيء من ذوات الطبائع والمواد والخاصيات فليس ذاك هو المؤثر فيه، بل المؤثر في ذلك هو الله تعالى وإناطته بذلك السبب وإزالته بشيء من الأدويات في بعض الأحيان لحكمة ومصلحة من جملة ما نحن بصدده.(1/561)
الغم
وأدخلت الغموم مع الآلام في هذا الباب وإن لم تكن منها لأن العوض مستحق على الجميع، وحقيقة الغم: هو ما يحصل في النفس من الانكسار والانحطاط لحصول ضرر بالنفس أو بمن تحب أو نقص في المال، فإن كان ذلك قد حصل فهو الغم، وإن لم يكن قد حصل وإنما يعلم أو يظن حصوله في المستقبل سمي مع ذلك خوفاً،وقولنا: أو بمن تحب. يدخل في ذلك موت الأولاد وأمراضهم وسائر أقارب الرجل وما يملكه من الدواب وما يحصل في إخوانه ومصافيه من سائر الناس، وما كان من الغموم متولداً عما يفعله الله تعالى من الأمراض والنقائص ونحوها فحكمه حكمها في استحقاق العوض عليه، وما كان متولداً من الجنايات الصادرة من العباد على نفس أو مال فحكمه حكمه في استحقاق العوض عليه أو عدمه لأن فيها ما لا يستحق عليه عوض كالقصاص ونحوه، وقد علم من هذا أن الألم ونحوه وما يتولد منه من الغم ينقسم إلى ضربين: ضرب من فعل الله تعالى،وضرب من فعل العبد، أما ما كان من فعل العبد فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى،وأما ما كان فعل الله تعالى فقد أشار إليه عليه السلام بقوله [ فإن قيل: ] لك أيها الطالب الرشاد [ فهل يفعل بعباده ] من الأمراض والنقائص والآجال وبسط الرزق وقبضها والأسعار ونحو ذلك [ ما هو مفسدة؟ ] وهي نقيض المصلحة والحكمة، وذلك كل فعل تضمن قبيحاً من ظلم أو كذب أو استحقاق بمنعم أو عبثاً أو سفاهة.(1/562)
معنى المصلحة
والمصلحة: ما يعود إلى الحي من جلب نفع أو دفع ضرر إما حَالِيٍّ كالدنيوية،وإما مالي كالدينية مع تعريه عن وجوه القبح المذكورة، ولا تكون المصلحة إلا للمخلوق، ولا تسند إلى الله تعالى إلا مع تعليقها بالعبد كقولنا: مصلحة عباده أو بالدين. كقولنا: يفعل الله كذا وكذا لمصلحة الدين، فإن حُذِف هذا القيد فالمعنى عليه كقولنا: يفعل الله كذا لمصلحة يعلمها مع اعتقاد تنزهه عن النفع ودفع الضرر.(1/563)
معنى الحكمة
والحكمة: كل فعل حسن لفاعله فيه مقصد صحيح. قولنا: كل فعل. جنس الحد، وقولنا: حسن. خرج به القبيح وفعل الساهي والنائم إذ لا يوصفان بحسن، وقولنا: لفاعله في مقصد صحيح. يخرج ما فيه مقصد لا طائل تحته فلا حكمة فيه كمن يشغل نفسه بِعَدِّ الحصى التي لا نفع له ولا لغيره فيها، وإنما قصد بذلك ليعلم كميتها فلا يوصف ذلك بالحكمة.
لا يقال: قد خُرِّج هذا بالفصل الأول لأنه إذا كان كذلك كان عبثاً والعبث قبيح.
لأنا نقول: إن قصده بعلم الكمية أخرجه عن العبث ولو كان قبيحاً للزم العقاب في فعله ومن المعلوم أن لا عقاب في ذلك إذ لا أقل من كونه مباحاً، لكن لما كان المقصد فيه غير ذي طائل خرج عن كونه حكمة ولم يخرج عن كونه حسناً -أي غير قبيح-، لأنه يدخل في الحسن على اصطلاح المتكلمين الواجب والمندوب والمباح والمكروه ولا يدخل في الحكمة إلا الأولين ومن الثالث والرابع ما فيه مقصد صحيح، لكن الرابع لا يدخل في الحكمة إلا إذا كان فعله أولى من تركه كصرف الزكاة في غير فقراء البلد للتأليف وإلا فلا حكمة في فعل المكروه بل الحكمة في تركه وهي اقتضاء الثواب.(1/564)
الفرق بين الحسن والحكمة
وحاصل الكلام في الفرق بين الحسن والحكمة أن الحسن أعم والحكمة أخص، ولهذا قالوا: لا يكون الحسن حكمة إلا إذا كان فيه صفة زائدة على حسنه. وبهذا كانت الأفعال تنقسم بالنظر إلى الحُسن والقبح إلى قسمين فقط حسن وقبيح ولا ثالث فيكونان نقيضان، وبالنظر إلى الحكمة والمفسدة إلى ثلاثة حكمة ومفسدة، ولا حكمة ولا مفسدة كالمباحات التي لا غرض فيها صحيح فيكونان ضدان، وليس في أفعال الله تعالى إلا القسم الأول وهو الحكمة دون الأخيرين وهما ما فيه مفسدة أو ما لا حكمة فيه ولا مفسدة، لأن الحكيم على الإطلاق لا يفعل ما لا حكمة فيه، وأما القبيح والمفسدة فلا فرق بينهما ولا يدخل فيهما إلا المحرم فلا فرق بينه وبين أيهما فالثلاثة مترادفة، قوله عليه السلام [ فقل: كلا، ] ردعاً اعتقاد حصول مفسدة أو خلو مصلحة عن أي شيء منها وقوله [ بل لا يفعل إلا الصَّلاح، ولا يبلوهم إلا بما يدعوهم إلى الفلاح، ] هذا هو الواجب في مسائل الباب على الجملة.(1/565)