وثانيهما: أنا لو حملناها على مشيئة الاختيار لوقع التناقض والتدافع بين هذه الآيات وبين ما مر من الآيات المحكمة الدالة على أن الله تعالى يريد الإيمان من جميع المكلفين ويكره الكفر والعصيان من جميعهم، ولا يمكن تأويل تلك الآيات التي استدللنا بها كما أمكن تأويل هذه التي استدلوا بها، والجمع بين الآيات على الوجه المتفق على صحته أولى من الجمع بينها على الوجه المختلف فيه، وتكون فائدة الآيات السابقة من قوله تعالى: ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?، ونحوها من الأخبار، والدلالة على أن الله تعالى يريد الإيمان والطاعات من جميع المكلفين ويكره الكفر والمعاصي من جميعهم، وفائدة هذه الآيات من قوله: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا? الإخبار والدلالة على أنه تعالى قادر على أن يجبرهم ويقسرهم على فعل الإيمان والطاعات وترك الكفر والمعاصي، وحمل كلام الحكيم المتعدد على فائدة صحيحة في بعض وأخرى في البعض الآخر أولى من حمله على فائدة لا تصح في بعضه وإخلاء البعض الآخر عن الفائدة أصلاً، لأن ذلك يلحقه بالهذر والهزء.
فإن قيل: وحملكم هذه الآيات ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ? ونحوها على مشيئة الإجبار يُلحقها بالهذر لأنه معلوم ذلك بلا نزاع فلا ينبغي حملها عليه لعروه عن الفائدة، فما أجبتم به في لزوم الهذر في هذه فهو جوابنا عما ألزمتموناه في تلك.(1/556)
قلنا: لا سواء لأنا إذا لم نجعل تلك الآيات ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا? ونحوها دالة على أنه تعالى يكره الكفر والمعاصي ويريد الإيمان والطاعات من جميع المكلفين، لم يبق لها معنى البتة بخلاف هذه الآيات ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ?ونحوها، فإنا إذا جعلناها دالة على قدرته تعالى على إجبار جميع الخلق على الإيمان وترك الكفر لم تعر عن الفائدة وأي فائدة، ويدل على أن المراد بها ذلك المعنى قوله تعالى تمام الآية خطاباً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ?أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ?، أي أفأنت تقدر على أن تكره الناس على الإيمان؟ لا لست بقادر بل نحن القادرون على ذلك، لكن لا نفعله لمنافاته التكليف ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ?{البقرة:256}، ? فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ'?{الكهف:29}. يزيد ذلك وضوحاً قوله تعالى: ?وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله?{الأنعام:111}، فإنه تعالى لما أخبر عن فرط عنادهم وإصرارهم على الكفر وتوغلهم فيه بما أخبر من أنه لو أنزل إليهم الملائكة عليهم السلام ينذرونهم وجعل الموتى يكلمونهم بما قد وجدوه من الحق وبطلان الشرك وحشر -أي جَمَعَ عليهم كل شيء- مما في الأرض من الوحوش والحشرات والناطقات والصامتات والناميات وجميع الجمادات وقاتلهم بها أو جعل في كل منها آية ظاهرة لهم ما آمنوا ولا كادوا أن يؤمنوا، فكان بعد هذا الإخبار عن عنادهم وإن وقع جميع ما ذكر من إنزال الملائكة ونحوه ربما يتوهم متوهم ممن لا يعرف إحاطة قدرة الله تعالى بجميع الممكنات أنه قد بلغ الحال إلى أن لا يقدر الله تعالى على إجبارهم وقسرهم على الإيمان، فرفع تطرق هذا التوهم بقوله عز وجل: ?إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ?، إلا أن يشاء أن يجبرهم ويكرههم عليه فهو على كل شيء قدير.(1/557)
فصل في الكلام فيما يفعله الله تعالى بعباده من الامتحانات والابتلاءات بالأمراض
والأسقام والغموم والنقائص والجوائح، وفي الكلام على الآلام الصادرة من بعض الخلق على بعض، وما يتصل بذلك من الآجال والأرزاق والأسعار والتكسب والألطاف.
واعلم أن الجهل بوقوع الحكمة على الجملة في ذلك أدى كثيراً من الناس إلى الضلال والهلاك.(1/558)
أقوال الفرق الضالة التي أنكرت أفعال الله تعالى بعباده
كالفلاسفة قالوا: لو كان للعالم صانعاً حكيماً لما فعل هذه الأمراض والآلام والنقائص والحوائج، فنفوا الصانع المختار وجعلوا جميع التأثيرات ناشئة عن العلة القديمة وما صدر عنها من العقول والأفلاك والنفوس.
وكالطبائعية: لما أسندوا جميع التأثيرات إلى الطبائع أسندوا هذه الآلام ونحوها إلى الطبع ونفوا صدورها ووقوعها من الله تعالى.
وكالثنوية: لما اعتقدوا أنها شر محض أثبتوا لها فاعلاً غير يزدان الذي هو الباري بزعمهم ونسبوها إلى الشيطان.
وكأهل النور والظلمة: نسبوا الخير كله إلى النور والشر كله إلى الظلمة.
وكَعُبَّاد الأصنام وبعض الجهلة من هذه الأمة: لما اعتقدوا في الأصنام والأولياء نسبوها إليهم فيمن لم يحسن الظن بهم.
وكأهل الإحالة من المطرفية ونحوهم قالوا: إن الله تعالى أحال التأثيرات في الأجسام على بعضها البعض، وإنما خلق الأصول الأربعة الماء والهواء والنار والتراب، ثم أحال جميع الحوادث من الإحياء والإماتة والنباتات والآلام والنقائص على هذه الأصول بواسطة طبائعها، ولا فعل له تعالى في ذلك عند بعضهم إلا كونه تعالى فاعل السبب، وبعضهم يقول: بل له أثر في ذلك مع الإحالة المذكورة.(1/559)
وكأهل التناسخ: لما أثبتوا الصانع المختار، وجعلوا الحكمة في الأمراض والأسقام النازلة بالأطفال ونحوهم من غير المكلفين والبهائم وسائر الحيوانات قالوا: إن الأرواح القائمة فيها قد عصت الله تعالى في هياكل وأجسام أُخر، ثم تناسخت وتنقلت إلى أولئك الأطفال ونحوهم.
وكالبكرية لما أثبتوا الصانع المختار وقالوا: إنه حكيم وجهلوا الحكمة في إيلام الأطفال ونحوهم أنكروا وقوع التألم فيهم.
وكالمجبرة لما أنكروا قبح الظلم وجوزوا أن يفعل الله تعالى ما صورته ظلم في الشاهد، وجوزوا منه فعل كل قبيح جوزوا صدورها بالأطفال والمؤمنين وسائر المكلفين وجميع الحيوانات لغير مصلحة وحكمة.
فهذه فرق الضلال التي ضلت وهلكت بسبب جهلهم وإنكارهم الحكمة والمصلحة فيها رأساً، وأهل العدل قاطبة سَلِمُوا عن الوقوع في هذه الورطة بأن حملوها على وجوه من المصالح والحكمة تخرجها عن العبث والظلم على خلاف بينهم في تفصيلها حسبما سيأتي، والذي يجب على المكلف هو اعتقاد الحكمة والمصلحة في جميعها على الجملة، فأما على التفصيل بعد الإقرار بحصول الحكمة والمصلحة على الجملة، فلا يلزم إلا على سبيل الزيادة في البصيرة والاستكثار من الفوائد المنيرة.(1/560)