وبعد فقد قال تعالى: ?وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ?{العنكبوت:53}?وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ?{الشورى:14}، فأخبر أنه تعالى قادر على تعجيل ما علم أنه لا يكون معجلاً بل مؤخراً، فكيف يقال: إن ما علم أنه لا يكون مستحيلاً؟
قالوا: الإرادة مطابقة للعلم فما لا يعلم الله تعالى وقوعه لا يريده.
قلنا: وكذلك يقال الإرادة مطابقة للقدرة، فما لا يريده الله تعالى لا يقدر عليه أو لا يعلمه، أو ليس أن كل واحدة من هذه الصفات تتعلق بما لا تتعلق به الأخرى، فكونه تعالى عالماً أعمها تعلقاً لأنه بكل شيء عليم، وذاته تعالى من جملة المعلومات فدخلت في العموم، ثم أخص منها قادراً لخروج ذاته عن المقدورات، ثم أخص من الوصفين كونه مريداً لأنه لم يكن مريداً لكل ما علمه ولا لكل ما قدر عليه، وهذا لاشك ولا خلاف فيه، فما شأن هذه المغالطات والتحكمات والجمع بين المتباينات بعدم المسلمات؟!
وأما من السمع:
فقالوا: قال تعالى: ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ? {الإنسان:30}.
قلنا: مفعول المشيئة محذوف، فأما أن يُقَدَّر عامَّاً لكل ما يشاؤه فهو باطل بقوله تعالى: ?تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ?{الأنفال:67}، فأخبر تعالى أنه يريد غير ما يريدون،وأما أن يُقَدَّر خاصَّاً فليس ما يمكن تعلق المشيئة به إلا ما ذكر في الكلام السابق قبلها، وقد ذُكِرَت هذه الجملة وهي قوله تعالى: ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ?، في ثلاثة مواضع:
أحدها: قوله تعالى: ?فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ? {المزمل:19}. ثانيها: ?لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ?{التكوير:28}. ثالثها: ?كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌoفَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ?{عبس:12،11}.(1/551)


فيقدر في الأولى وما تشاؤون اتخاذ السبيل، وفي الثانية وما تشاؤون الاستقامة يعني على طريق الحق، وفي الثالثة وما تشاؤون الذكرى، وكل هذه الثلاثة اتخاذ السبيل والاستقامة والذكرى طاعات وقُرَب مُقَرِّبة إلى الله تعالى، فأين ما يدل على مدعى الخصم أنه تعالى يريد المعاصي؟ فلا دلالة على ما يزعمه الخصم في ذلك البتة، والمعنى: وما تشاؤون اتخاذ السبيل والاستقامة على الحق والذكرى إلا والله تعالى يشاء ذلك منكم، فالآيتان سواء من قبول ذلك منكم، ولا تتكاسلوا عن العمل بموجبه.
لا يقال: إن المعنى من ذلك لا تشاؤون هذه الطاعات إلا إذا شاءها منكم، فإن لم يشأها فلا تشاؤونها -أي لا تقدرون على مشيئتها-.
لأنا نقول: لو كان المعنى كذلك لوردت الآيات بكسر الهمزة فتكون إن الشرطية والآيات وردت بفتحها فتكون أن المصدرية التي تسبك مع الفعل بعدها بمصدر، فيكون المعنى وما تشاؤون هذه الطاعات إلا ومشيئة الله حاصلة وثابتة في ذلك.
وبعد فلو قلنا إن الهمزة مكسورة ووردت قراءة بذلك فلا يقدح ولا متمسك للمخالف لأن مشيئة الله تعالى قد حصلت في هذه الثلاثة وكلها طاعة، فلا دلالة في ذلك على مشيئته تعالى للمعاصي، وأما قول السائل: فإن لم يشأها فلا تشاؤونها. فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن هذا أخذاً بالمفهوم، والأخذ بالمفهوم لا يصح التمسك به في العقائد المطلوب فيها اليقين لأنه لا يفيده.(1/552)


ثانيها: مسلم أنه لم يشأها سبحانه فلا يشاؤونها لكنا لا نسلم أن المعنى لا تقدرون على مشيئتها، بل المعنى فإن لم يشأها فلا ينبغي أن تشاؤونها، ويكون المعنى أن ليس المشيئة في تشريع تلك الطاعات أو غيرها من القرب إليهم بل المشيئة في ذلك إلى الله تعالى، وهذا غاية الترغيب من الله تعالى في فعلهم تلك القرب المذكورة والترهيب عن التشريع منهم ومن تلقاء أنفسهم ما لم يشأه منهم، ويكون ذلك كما إذا قال السيد لعبده: افعل كذا وكذا و كذا. ثم يقول في حثه على ذلك: فما تفعل شيئاً من ذلك إلا وقد أردته منك، ثم إذا أراد قصره عن فعل ما سوى المذكورة أتى بالجواب بلفظ المضارع كما في الآيات المذكورة، والله أعلم.
قالوا: قال تعالى: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا?{يونس:99}،?أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا?{الرعد:31}، ?فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ?{الأنعام:149}، ?لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا?{السجدة:13}، ونحو ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لم يشأ هداية كل الناس وإيمان جميعهم، وقال تعالى: ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا?{الأنعام:107}، ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ? {الأنعام:137}، ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا?{البقرة:253}، ونحو ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يشاء الشرك والقتل وسائر ما يفعله المشركون والعصاة.
والجواب عن جميع ما ذكروه وسائر ما يستدلون به من وجوه:(1/553)


أحدها: أنه لا يصح لهم الاستدلال بالسمع ما داموا على ذلك المذهب السخيف والاعتقاد العنيف، لأنهم قد قالوا: ما من كذب في الخارج صدر من مدعيي الربوبية، ومدعيي النبوة والكفار، ومن جميع العصاة الأشرار إلا والله تعالى فاعله، ومريده، وخالقه، ومقدره، ولا يقبح منه لأنه غير منهي ولا يُسأل عما يفعل. وإذا كان كذلك فلا يبعد منه الكذب في هذه الآيات وجميع ما أخبر به في كتبه وعلى ألسنة رسله ولا يقبح منه لأنه غير منهي ولا يُسأل عما يفعل.
ثانيها: أن هذه الآيات ونحوها مما تمسكوا به هي من المتشابه وقد قال تعالى: ?فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ? {آل عمرا:7}.
ثالثها: أن المتشابه عند الخصم لا يعلم تأويله إلا الله دون الراسخين، فسقط استدلال الخصم بالسمع أجمع بمقتضى الثلاثة الوجوه الأُول يعم المحكم والمتشابه، والأخيرين يخصان المتشابه فقط، وقد مر ذكر هذه الثلاثة أو بعضها فيما مضى من هذا المختصر، لكن أعدناها هنا تنبيهاً للناظر والمطالع لعظم نفعها وتسلطها على اقتلاع جرثومة الجبر وهتك أستاره ولعدم ضرها، وتنشطها إلى انتزاع أكرومة العدل وفك سواره قامعة لأهل الجبر لا يملكون دفعها، وواقعة عليهم من سماء العدل لا يستطيعون رفعها.(1/554)


رابعها: أن متعلق الشُّبه في الآيات المذكورة غير مذكور كما تراه من قوله تعالى: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ?،?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ? فلم يذكر في شيء منها لو شاء كذا، وإنما ذكر أجوبة لو، لأن لو الشرطية تحتاج إلى شرط وجواب، تقول: لو شئت إدخال زيد داري لأدخلته، فقولك: شئت. فعل الشرط، وقولك: إدخال زيد مفعوله متعلق به وقد يحذف هذا المتعلق اختصاراً تقول: لو شئت لأدخلت زيداً داري، كما في الآيات المذكورة وقولك: لأدخلته. جواب الشرط، وإذا كان الأمر كذلك فلا دلالة للخصم إلا لو كان متعلق المشيئة مذكوراً بأن تقول: لو شاء ربك إيمان أهل الأرض، أو لو شاء الله عدم شرك المشركين، على أنه لو فرضنا ذلك وأخذناه من الأجوبة المذكورة بعد لو لما كانت الدلالة إلا ظاهراً لا صريحاً لاحتمالها التأويل بمشيئة الإجبار لا مشيئة الاختيار.
فإن قيل: ليس بأن تحملوا المشيئة على مشيئة الإجبار أولى من أن نحملها على مشيئة الاختيار.
قلنا: بل حملها على مشيئة الإجبار أولى لوجهين:
أحدهما: أن حملها على مشيئة الإجبار لا نزاع في إمكانه وعدم استحالته على الله تعالى بالنظر إلى أنه تعالى قادر على ذلك بل الجميع متفقون على أن الله تعالى قادر على ذلك، وإنما منع أهل العدل من صحته ووقوعه لمنافاته التكليف بخلاف مشيئة الاختيار فالنزاع فيهما كائن فيكون حملها على الوجه المتفق عليه أولى من حملها على الوجه المختلف فيه، لأن ما أجمعت عليه الأمة فهو الحق، وما اختلفت فيه تطرق إليه الخطأ.(1/555)

111 / 311
ع
En
A+
A-